IMLebanon

قراءة سياسية في العقدة السنية وموقف “حزب الله”

كتبت صحيفة “الأنباء” الكويتية:

اتفاق رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري على الصيغة الحكومية (وهو اتفاق كان يفترض أن يترجم بإصدار مراسيم التأليف في ٢٩ أكتوبر الماضي)، لا يكفي لولادة الحكومة وخروجها الى النور، مع أن الدستور أناط بهما حصرا مسألة تأليف الحكومة. ففي لبنان الميثاق أهم من الدستور، والأعراف تغلب النصوص وتتقدم عليها، والمعادلة الطائفية أهم من اللعبة السياسية. فالرئيس الحريري حمل في زيارته الأخيرة إلى بعبدا صيغة حكومية تضمنت حقائب من دون أسماء، ذلك أنه عندما طلب من الحاج حسين خليل أسماء وزراء حزب الله كان الجواب أن الأسماء لا تسلم إلا بعد الاتفاق على الوزير السني السادس، أي بعد موافقة الحريري على تمثيل سنة 8 آذار من خارج المستقبل. وبالتالي، اصطدمت عملية تشكيل الحكومة بهذه المعادلة: لا تشكيلة حكومية من دون أسماء وزراء الشيعة. ولا حكومة من دون سنة ٨ آذار.

مما لا شك فيه أن حزب الله لا يجد نفسه حاليا في وضع سياسي مريح، وهو لم يوفق في إدارة معركة التمثيل السني على النحو الأفضل، وإنما حصلت أخطاء من جانبه مثل عدم طرح موضوع تمثيل حلفائه السنة على امتداد 5 أشهر بجدية وعلنية، وتسليط الضوء على العقدتين الدرزية والمسيحية أو التلطي وراءهما. واختيار توقيت غير مناسب لإعلان الموقف النهائي والحازم عشية صدور مراسيم الحكومة الجديدة، وعدم توقع هذا الموقف المنحاز من جانب الرئيس عون لمصلحة الحريري والمتفهم لرفضه واعتراضه. ويضاف إلى ذلك الخطأ أو الخلل الحاصل في آلية التنسيق والتواصل بين حزب الله ورئيس الجمهورية.

ومما لا شك فيه أيضا أن عوامل ومعطيات كثيرة تضغط على حزب الله وتدفع به الى تليين موقفه حيال العقدة السنية وإيجاد حل لها، لأن الحزب يخوض معركة «مكلفة» ويواجه:

– موقفا متشددا من الرئيس الحريري المحاط برعاية سنية كبيرة يصل الى حد ربط مصيره الحكومي بهذا المقعد، والتلويح بالاعتذار والانسحاب. فهل مصلحة حزب الله ببقاء الحريري أم بخروجه من رئاسة الحكومة؟! وهل يملك البديل الجاهز له؟! وهل من يقبل أو من يقدر في الطائفة السنية أن يشكل حكومة حاليا؟!

– توافقا واضحا ومعلنا بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف على مسألة التمثيل السني، وصل عند الرئيس عون الى حد ربط المقعد المتنازع عليه بمسألة التسوية والشراكة في الحكم، بمعنى أن التسوية مرتبطة بوجود الحريري واستمراره في رئاسة الحكومة قويا، وفرض تمثيل سني عليه مرفوض منه يضعفه ويعرض بقاءه للخطر.

– مجتمعا ورأيا عاما لبنانيا يرزح تحت أثقال أزمة اقتصادية وينتظر بفارغ الصبر الحكومة الجديدة التي جمدت عند نقطة تمثيل السنة المدعومين من حزب الله.

– مجتمعا دوليا يربط استمرار دعمه ورعايته للبنان اقتصاديا وسياسيا بولادة الحكومة الجديدة.

رغم كل هذه الصورة، فإن حزب الله ليس في وارد تغيير رأيه والتخلي عن تمثيل حلفائه، والذين ينتظرون إطلالة أمينه العام السيد حسن نصرالله بعد أيام عليهم أن يتوقعوا مزيدا من التمسك بهذا الموقف والتأكيد عليه وتبريره ودحض المبررات والذرائع التي تعطى لعدم تمثيل هذه الشريحة.

وبخلاف كل الاعتقاد السائد، لا يجد حزب الله نفسه في موقف حرج أو «مضغوط»، ولا يعتبر أن الكرة في ملعبه، لا بل يعتبر أنه الحلقة الأقوى في هذه المعركة، وأن الحريري هو الحلقة الأضعف وأن عليه تقع مسؤولية إيجاد حل لهذه المشكلة إذا كان يريد أن يشكل حكومة، وأن يبقى رئيسا للحكومة. ولا يعتبر الحزب أن مشكلته هي مع الرئيس عون، وأن هذا الموضوع يمكن أن ينال من علاقتهما الاستراتيجية التي اجتازت تحديات واختبارات أقوى وأصعب منذ العام ٢٠١٦ وحتى الآن. وباختصار، فإن حزب الله لديه قدرة على الانتظار وعلى إدخال عملية تشكيل الحكومة في إجازة مفتوحة، ولا مشكلة لديه في ذلك. ولكن لا رئيس الجمهورية ولا الرئيس المكلف لديهما مثل هذه القدرة على انتظار إضافي، فمن دون حكومة يتعرض رصيد العهد وزخمه ومصداقيته للتآكل، ومن دون حكومة تتعرض نتائج مؤتمر «سيدر» وثماره لخطر التبدد والضياع.

في الواقع، جملة عوامل وأسباب واعتبارات تدفع بحزب الله الى اعتماد هذا الموقف رغم ما يرتب عليه من كلفة ومحاذير:

– الوفاء للحلفاء أولا. هذه إحدى الميزات التي يتمسك بها حزب الله ويتباهى أنه ينفرد بها وتميزه عن سائر القوى السياسية، وهذا ما أثبته مع حليفه الأول الرئيس عون والتيار الوطني الحر عندما كان يجمد تشكيل حكومات لأشهر من أجله، وعندما أوقف عملية انتخاب رئيس الجمهورية لسنتين وأكثر حتى تحقيق هدفه بانتخاب الرئيس عون. وهذا ما فعله مع الوزير سليمان فرنجية عندما احتفظ به وحفظ مكانته ومعنوياته بعد رئاسة الجمهورية بإعطائه وزارة الأشغال، والآن تمثيله في الحكومة مع هذه الوزارة الأساسية، مع أن كتلته النيابية الفعلية لا تتجاوز الـ ٣ نواب. وهذا ما ينطبق الآن على حلفائه السنة، فلا يتركهم لمصيرهم.

– الأهمية السياسية للاختراق الذي أحرزه حزب الله في الطائفة السنية عبر إيصال حلفاء له الى البرلمان للمرة الأولى منذ العام ٢٠٠٥، بعدما كان تيار المستقبل ينفرد بالتمثيل السني ويحتكره. فقانون الانتخابات الجديد على قاعدة النسبية، أعطى سنة ٨ آذار فرصة للفوز والوصول الى البرلمان، ولو بأصوات حلفائهم والكتل التي ينتمون إليها.

– التوازن السياسي في الحكومة الجديدة، والذي يعكس الأحجام الجديدة في البرلمان والتوازنات الطائفية والسياسية الدقيقة.

فإذا وضعنا جانبا الأزمات والظروف الإقليمية المحتدمة والمؤثرة حكما على حكومة لبنان، مع أن حزب الله يقلل من شأنها، فإن لدى الحزب ما يكفي من الأسباب الداخلية التي تدفعه للتمسك بمبدأ تمثيل سنة ٨ آذار وعدم القبول باستمرار أحادية التمثيل السني الوزاري لتيار المستقبل. حزب الله يهدئ اللعبة ويترك فسحة لمراجعة الحسابات لدى الجميع. في تقديراته أن الحريري ليس مقبلا على الاعتذار والانسحاب ولا مصلحة له في ذلك، وأن انتحاره السياسي لا يكون بقبوله تمثيل سنة ٨ آذار وإنما بخروجه من الحكم. وفي تقديراته أن الرئيس عون اتخذ هذا الموقف من موقعه كعامل توازن وجسر تواصل، والحزب متفهم لهذا الموقف، ولكنه يرى أن العلاقة تحتاج الى إعادة تأهيل وتنظيم، وآليات التنسيق والتواصل ربما أصبحت بحاجة الى «لقاء قمة» يعقد بين عون ونصرالله. ولكن المشكلة أن السيد نصرالله لا يمكنه أن يطلع الى قصر بعبدا لأسباب أمنية، وأن الرئيس عون لا يمكنه أن «ينزل» من القصر لأسباب بروتوكولية.

حزب الله يرى أن الحكومة ستشكل عاجلا أم آجلا، وأن تمثيلا لسنة ٨ آذار سيحصل بصيغة ما يتم التوافق عليها، والموضوع يتطلب وقتا قد يقصر أو يطول.

ولكن في الواقع هناك أزمة حكومية وسياسية فعلية أصعب وأعقد مما يتصوره كثيرون، تعادل في عمقها ومستواها أزمة الفراغ الرئاسي، وتختزن بذور أزمة حكم ونظام. كما أن هناك أوجه شبه كثيرة بين الأوضاع السائدة في نهايات العام الحالي وتلك التي كانت سائدة في نهايات العام ٢٠٠٤ الذي سبق عام الزلزال والتحول الكبير في مجرى الأوضاع اللبنانية. الأزمة كبيرة: الرئيس بري لم يعد لديه إلا الدعاء، والاتصالات مع حزب الله متوقفة بطلب منه، وحركة الوساطات لم تبدأ لأنه لا يتوافر أساس ونقطة انطلاق واختراق يبنى عليها. فلا حزب الله مستعد للتراجع في مرحلة يعتبر أنه منتصر فيها داخليا وإقليميا، فيما يراد له أن يتصرف كمهزوم، ولا للتفريط بمكتسب سني ولخلق سابقة مفادها أن ليس كل ما يريده يحصل عليه. ولا الرئيس الحريري مستعد للتساهل في شأن تدخلات تعبث ببيته الداخلي (الحكومة) متجاوزة حديقته الخلفية (البرلمان). ولا الرئيس عون مستعد للتفريط بالتوازنات السياسية والطائفية وإحداث خلل على مستوى «الشراكة في الحكم والوحدة الوطنية».