IMLebanon

خفض الفوائد مقابل تحويل القروض المدعومة من الليرة إلى الدولار

كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”:

هندسات مصرف لبنان وإجراءاته لم تتمكن من وقف نزف احتياطاته بالعملات الأجنبية. الهندسات بدأت صيف 2016 واستمرت بشروط مختلفة في السنوات اللاحقة، ثم جاءت الإجراءات التي تحدد سقفاً للتسليفات بالليرة يوازي 25% من مجموع الودائع المصرفية، والسماح بتغيير عملة القرض من الليرة إلى الدولار… كل ما يقوم به مصرف لبنان يندرج في إطار شراء الوقت

يبدو أن هناك موجة جديدة من التغيرات في بنية سوق التسليفات المصرفية. فقد سمح مصرف لبنان للمصارف بأن تغيّر عملة القرض المدعوم، بعد موافقة الزبائن، من ليرة إلى دولار. بدورها، بدأت المصارف تعرض على الزبائن حسماً للفوائد يصل إلى خمس نقاط مئوية في حال موافقتهم على هذا التغيير. مصادر في مصرف لبنان قالت إن عملية التغيير لا تزال ضمن حدود ضيّقة، لكن هذا الأمر يسمح للزبائن المتعثّرين بالحصول على إعادة جدولة للدفعات المترتبة عليهم، إذ لا يمكنهم الحصول على هذه الجدولة إذا بقي القرض بالليرة اللبنانية.

عملياً، الهدف من هذا التغيير هو تحفيز المصارف على استقطاب الدولارات. إذ إنها تحتاج إلى ودائع إضافية بالدولار لإقراض الزبائن بالدولار بدلاً من الليرة. كما يخفّف ذلك من الأعباء التي قد تحملها المصارف في ميزانياتها ربطاً بتوقعات ارتفاع نسبة القروض المتعثّرة. مثل هذه التوقعات منطقية نظراً للركود الحاد الذي يشهده الاقتصاد ولارتفاع أسعار الفوائد، فضلاً عن أنه يحمّل الزبائن مخاطر التقلبات في سعر الصرف.

تعكس هذه العملية تخبّط مصرف لبنان تجاه التعامل مع الأزمة الراهنة. فالإجراءات الأخيرة التي نفذها منذ صيف 2016 (الهندسات المالية والتعاميم اللاحقة)، أدّت في النهاية، وعلى رغم كلفتها الباهظة، إلى ارتفاع كبير في أسعار الفائدة يزيد على خمس نقاط مئوية. وانعكس هذا الارتفاع ركوداً اقتصادياً حاداً مع نزوح رؤوس الأموال إلى التوظيف المصرفي والاستفادة من الأرباح الهائلة السريعة والسهلة، وانكفائها عن الاستثمار في القطاعات.

ومن نتائج هذا الركود، ارتفاع في نسبة القروض المتعثّرة، وبالتالي كان لا بد من كبح ارتفاع أسعار الفوائد من خلال التشجيع على تغيير عملة القرض من الليرة إلى الدولار. فالمعروف أن الفائدة على الدولار أقل من الفائدة على الليرة، والتغيير في عملة القرض يخفي حقيقة ارتفاع أسعار الفوائد الحقيقية.

المشكلة بالنسبة لمصرف لبنان أنه يريد امتصاص كل السيولة بالليرة حتى يحدّ من الطلب على الدولار، ويسعى للحفاظ على القطاع المصرفي كأداة لجذب الدولارات من الخارج حتى يتاح له امتصاصها وتكوين احتياطات بالعملات الأجنبية لتثبيت «الثقة» بالسوق، ولتعزيز قدرته في الدفاع عن ثبات سعر صرف الليرة تجاه الدولار.

هنا يكمن مفصل المسألة برمتّها. احتياطات مصرف لبنان تمثّل حائط الدفاع الأساسي عن ثبات سعر صرف الليرة. تعزيز هذه الاحتياطات هو الهدف. يتم هذا الأمر من خلال ترك أسعار الفائدة المحلية أعلى من أسعار الفائدة العالمية بنحو خمس نقاط مئوية من أجل جذب الدولارات من الخارج وامتصاصها. يجمع مصرف لبنان الدولارات في ميزانيته، ما يتيح له التدخّل لمدّ السوق بالسيولة اللازمة وبالسعر المدعوم لدفع ثمن السلع والخدمات المستوردة بالعملات الأجنبية. عندما يكون هناك طلب على الدولارات في السوق يبيع مصرف لبنان من احتياطاته، وعندما تكون هناك تدفقات مالية من الخارج يمتصّها لإعادة تكوين احتياطاته… وهكذا دواليك. تراجع التدفقات ينعكس سلباً على الاحتياطات، ما يؤثّر سلباً في قدرة «المركزي» على الدفاع عن ثبات سعر الصرف.

في هذا الإطار تصبح تقديرات صندوق النقد الدولي عن تراجع الاحتياطات بنسبة 55% خلال خمس سنوات مؤشراً على مسار كارثي. صندوق النقد لم ينشر تقريره النهائي عن لبنان في إطار البعثة الرابعة بناء على طلب مصرف لبنان، لكنه أصدر في حزيران الماضي جدولاً بتوقعاته لبعض المؤشرات المالية على مدى السنوات المقبلة. الجدول يتضمن تراجعاً دراماتيكياً في احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية من 40.6 مليار دولار في 2017 إلى 22.4 مليار دولار في نهاية 2022. وهذا يعني أن نسبة التدفقات لم تعد كافية لتمويل الاحتياطات.

في الواقع، ما قام به مصرف لبنان منذ 2016 لا يعدو كونه عملية شراء للوقت. وهو يسعى حالياً لمزيد من شراء الوقت. الأمر لم يعد مجرّد إشاعات وأقاويل تردد هنا وهناك. ورد هذا الأمر بشكل واضح في التقرير الأخير للبنك الدولي الأخير عن لبنان (المرصد). رسم البنك تشخيصاً دقيقاً لمعاناة «النموذج» الاقتصادي اللبناني من «الاعتماد الهيكلي والمكثّف على رأس المال والتدفقات المالية»، لافتاً إلى «محدودية الأدوات المتاحة لتحقيق الاستقرار»، ثم أشار إلى أن استجابة مصرف لبنان لهذه الأزمة «حتى عندما تنجح، تقدّم حلولاً مرحلية ولا تخلو من مخاطر مالية إضافية (…) وزيادة احتمال التعرض للصدمات في المستقبل».

بحسب البنك الدولي، يتزايد ظهور المؤشرات السلبية. أبرزها هو صافي الأصول الأجنبية الذي سجّل انخفاضاً عن 2011. «ففي سياق نظام سعر الصرف الثابت والعجز الداخلي والعجز الخارجي على الأمد البعيد، يستلزم لبنان تراكماً فائضاً في وضع أصوله الأجنبية الصافية على أساس سنوي. وقد تحقق ذلك عموماً في الفترة ما قبل 2011، لكن ارتفاع عجز الحساب الجاري إلى جانب الانخفاض الحاد في الاستثمار الأجنبي المباشر وغيره من مصادر التدفقات، أدّى إلى حدوث تغير سلبي في وضع صافي الأصول الأجنبية… وبهدف الحفاظ على رصيده من الاحتياطات بالنقد الأجنبي وتعزيز وضع صافي الأصول الأجنبية، أطلق مصرف لبنان أول مجموعة في سلسلة من الهندسات المالية الكبيرة، ما أدى إلى زيادة في صافي الأصول الأجنبية بقيمة 1.2 مليار دولار في 2016، إلا أنه على رغم استمرار هذه الهندسات، سجل في 2017، مرة أخرى، انخفاض في هذه الأصول واستمر الانحدار حتى العام 2018».

ويشير البنك في تقريره إلى أن تعزيز وضع صافي الأصول الأجنبية جاء بكلفة مرتفعة ومتزايدة في الميزانية العمومية لمصرف لبنان. بكلام آخر هو يشير إلى ما رتبته هذه الهندسات من خسائر في ميزانية مصرف لبنان.

لكن الأثر لا ينحصر بهذه الخسائر، بل هناك «زيادة التعرض لمخاطر التمويل للاقتصاد الكلّي. وعلاوة على ذلك، وفي ضوء تباطؤ نمو الودائع، شكّلت موجودات المصارف اللبنانية في المصارف الخارجية إحدى المصادر الرئيسية لتمويل المشاركة في العملية (الهندسات). وبشكل أساسي جرى تعزيز احتياطات الدولة المقوّمة بالعملة الأجنبية على حساب احتياطات المصارف المقومة بالعملة الأجنبية».

يستنتج البنك الدولي أنه «إذا ما ترجمت أزمة الثقة إلى أعطال نظامية، فالأدوات المتاحة لتحقيق الاستقرار في لبنان محدودة». البنك الدولي يعني الاستقرار في ثبات سعر صرف الليرة تجاه الدولار الذي «لا يمكن التخلي عنه من دون مخاطر كبيرة بالإخفاقات المالية الشاملة… تفتقر البلاد إلى سبل إعادة تحقيق الاستقرار المطلوب عبر التصدير».

إذاً، في ظل عدم إمكان معالجة الاختلالات عبر تحفيز التصدير (التصدير يجذب العملة الأجنبية)، وعدم نفع تدخلات مصرف لبنان إلا مرحلياً، يتوقع البنك الدولي «مزيداً من الزيادات في أسعار الفائدة على الودائع بالدولار»، وهو يرى أن الحلول المرحلية لا تخلو من مخاطر مالية إضافية ومن «زيادة احتمال التعرض للصدمات في المستقبل». لا بل إنه يشير إلى أن «الأوضاع النقدية الأكثر تشدداً من المرجح أن تؤدي إلى زيادة التدهور في النشاط الاقتصادي وما يترتب عنه من تدهور في كل الميزانيات العمومية والخاصة (القطاعين العام والخاص)».

إذاً، هي دوامة. المعالجات المرحلية تزيد الأوضاع سوءاً. ما الحل؟ لم تطرح أي جهة حلاً بعد، باستثناء الوزير السابق شربل نحاس، الذي وجّه رسالة إلى المصارف والزعماء والدول والمؤسسات الدولية المعنية بلبنان: التصحيح الطوعي وتوزيع الخسائر. تطبيق هذا الحلّ يتطلب استجابة سريعة قبل الدخول في دوامة الانهيار، أي الإمساك بزمام المبادرة الآن، قبل فلتان الأمور من عقالها.