IMLebanon

مفاوضات تنتج انقسامات داخل الطوائف…لا حكومة

كتبت هيام القصيفي في صحيفة “الأخبار”:

قد تكون التسوية الرئاسية والتهدئة التي جرت بعدها الاستثناء في مسار الحياة السياسية اليومية. فما يجري حالياً، بعد أشهر من المماحكات الحكومية، أظهر الساحة الداخلية على حقيقتها. إذ تداخلت نتائج الانتخابات النيابية مع المفاوضات لتوزع الحصص داخل الحكومة، ما أدى إلى تضاعف مؤشرات التشرذم داخل المجموعات السياسية ــــ الطائفية. وإذا كانت الأوضاع الراهنة لا تسمح بتحول هذا التشرذم وقائع عملية، بفعل موجبات دولية وإقليمية، على رغم كل الأسباب الموجبة، فإن ذلك لا يعني أن مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية لم تساهم في كشف كل العورات السياسية ــــ الطائفية حتى داخل المجموعة نفسها. وزادت مفاوضات التأليف من هشاشة الوضع، لتطرح أمام الطوائف الممثلة سياسياً بأحزاب وتيارات، واقع ترهلها إلى الحد الذي لم تسلم مجموعة من هذا الانقسام، ما خلا طبعاً حزب الله وحركة أمل.

وإذا كانت الساحة المسيحية تشهد حالياً هدوءاً واضحاً، بعد انتقال المشكلة إلى الساحة السنية على خلفية تمثيل سنة 8 آذار، فإن ذلك لا يعني أن مفاوضات التأليف لم تسفر عن ازدياد العناصر التي كرست الخلافات المسيحية بعد مرحلة تهدئة بفعل «إعلان النوايا» بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. وانحسار موجة الردود والردود المضادة وخفوت حدة اللهجة بين ممثلي القوى المسيحية في ما يتعلق بتأليف الحكومة، لا يعني أن الأفرقاء السياسيين المسيحيين لم يخرجوا من معركة الانتخابات ومفاوضات التأليف من دون خسائر. وفي حين تمكّن التيار الوطني الحر، حتى الآن من تحقيق تقدم ملحوظ في الملف الحكومي في ما يتعلق بتحجيم خصومه المسيحيين، ويثبت تقدمه أيضاً بفعل موقعه كحزب العهد، إلا أنه أيضاً بقي وحيداً في الساحة المسيحية من دون حلفاء. وأسهم تمسكه بالتفاوض الشاق في شأن الحقائب في تطيير إعلان النوايا على رغم نفيه ذلك.

في المقلب الثاني تراجعت القوات اللبنانية عن شروطها الحادة في التأليف الحكومي. وهي، وإن لم تخرج من الحكومة، إلا أنها تدخلها بشروط الآخرين. وثمة من يعتبر من خصوم القوات، أن خطوتها الناقصة الأخيرة كانت بقبولها بالشروط المفروضة عليها، تحت وطأة إخراج الحكومة سريعاً. لكن عرقلة التأليف قلبت أوراقها، فباتت أمام واقع أنها ورقة لا تقدم ولا تؤخر في تشكيل الحكومة. وفي حين سرّعت القوات مع تيار المردة خطوات المصالحة المهمة بينهما، فإن ذلك لا يغني عن القول إن القوى المسيحية الأربع، مع غياب حزب الكتائب عن تحقيق نتائج في الانتخابات وعدم دخوله إلى الحكومة، عادت كل منها إلى مربعها، بفعل تبدل المصالح. فما عجزت عن تحقيقه الانتخابات، حققته الحكومة قبل ولادتها.

لم يكن المشهد الدرزي أخف وطأة من الواقع المسيحي، بعدما تحولت الحكومة على مدى أشهر، عنصراً فعالاً في تجييش الخلافات الدرزية الداخلية، في شكل غير مسبوق. وعلى رغم أن التهدئة سلكت طريقها أيضاً على خط القوى الدرزية، لا سيما أن المفاوضات الحكومية مع القوى السياسية الأخرى عطّلت بعض مفاعيل الخلاف، فإن ما تركته من إشكالات حول تقاسم الحصص الوزارية، يبقى نافراً في الواقع الدرزي تاريخاً. ومن الصعب التعامل من الآن وصاعداً مع تداعيات هذا الخلاف وكأنه لم يكن.

مع دخول العقدة السنية على خط المفاوضات الحكومية، أُضيف عنصر خلافي جديد على واقع الطائفة السنية. لم تكن الانتخابات النيابية وحدها العامل الحاد الذي ثبت الخلافات السنية. فمنذ عام 2005 استمرت الانقسامات على حالها، لكن من دون الوصول إلى هذه الحال من المواجهة كما هو الأمر اليوم. المشكلة زادت حدة، تدريجاً، بعد الحرب السورية. فلم تعد الخلافات مضبوطة الإيقاع. لكن مع تفاقم المشكلات الداخلية، قبل التسوية الرئاسية وبعدها، لم تعد الخلافات مضبوطة الإيقاع، حتى داخل المحور الواحد، والانتماء السياسي الواحد. اليوم مع دخول حزب الله في علانية مطلقة إلى جانب توزير الفريق السني المتحالف معه يتكرس الخلاف السني في شكل أعمق. لكن ذلك أيضاً لا يعني أن القوى والشخصيات السنية، حتى تلك الموجودة في المحور الوسطي، أو المعارض لحزب الله، ليست أيضاً منقسمة على نفسها. خصوصاً بعد دخول العامل التركي على الخط، وتراجع الدور السعودي تدريجاً، في الإحاطة بالشخصيات التي كانت على عداء مع الحزب. ليست قضية الصحافي جمال خاشقجي إلا واحدة من تجليات نظرة بعض الفريق السني إلى «الرياض الجديدة». وانسحاب السعودية من الواقع اللبناني، وانغماسها راهناً في ترتيب أوضاعها الدولية، جعل معارضيها في لبنان ومؤيدي الاتجاه السوري ــــ الإيراني يتقدمون، بدعم من حليفهم حزب الله. يستند هؤلاء إلى واقع تمثيلهم السني بفعل الانتخابات النيابية، إلا أن دعمهم الأساسي لا يأتي من نتائج الانتخابات، لأنهم أيضاً يمثلون حالة سياسية تلغي الأحادية في الواقع السني. المشكلة الحالية هي أن الرئيس المكلف سعد الحريري فقد كثيراً من أدواته التي كانت تقف رأس حربة أيضاً في الدفاع عن مشروعه، الذي لم يعد أيضاً واضح المعالم. فأن يقبل بنتائج الانتخابات على أساس النسبية أمر، وانتقال معارضيه داخل الطائفة إلى جانبه على طاولة مجلس الوزراء، يعني تكريس واقع سني جديد، يتخطى الزعامات التقليدية. وهذا أمر من الصعب القبول به. لا المسيحيون قبلوا به ولا الدروز. لكنهم سواسية تلقوا تبعات التأليف الحكومي مزيداً من التشرذم. حتى الآن هذه هي النتيجة الوحيدة للمفاوضات. وحدها الثنائية الشيعية تخرج من المعادلة من دون خسائر.