IMLebanon

كارلوس غصن “حلاّل المشكلات” الذي لم يجد لمشكلته حلا

كتب صلاح تقي الدين في صحيفة “العرب” اللندنية:

جاء إعلان وزير العدل اللبناني سليم جريصاتي الخميس عن أن بلاده قد تتجه إلى أن تطلب من اليابان استرداد كارلوس غصن، ليزيد من هوس اللبنانيين بتطورات قصة غصن، قطب صناعة السيارات المتهم بارتكاب جريمة التهرب الضريبى، إلى لبنان، استنادا إلى الاتفاق الدولي لمكافحة الفساد عام 2009 والموقع عليه من لبنان واليابان، والذي يتيح للمطلوب استرداده أن يحاكم في بلاده.

ورغم انشغال اللبنانيين بأزمة تشكيل الحكومة، وتزاحم قادتهم السياسيين على إطلاق المواقف المتعلقة بهذه الأزمة، إلا أن خبر اعتقال الرئيس التنفيذي لمجموعة نيسان ـ رينو العملاقة للسيارات، طغى على اهتماماتهم، مؤقتا، وراحوا يتبارزون بإطلاق تصريحات بعضها مؤيد وآخر “شامت” حول مصير “إمبراطور” صناعة السيارات المتحدّر من أصول لبنانية، والذي حمل يوما لقب “السيد حلاّل المشكلات” لدوره في إنقاذ عملاقي صناعة السيارات في اليابان وفرنسا من المشكلات التي تخبطتا فيها.

من عادة اللبنانيين أن يفاخروا بنجاحات أبنائهم في المهجر، وغصن أحد هؤلاء، وهو الذي كان على مدار مسيرته العملية موضع تكريم وحفاوة من قبل اللبنانيين على المستويين الرسمي والشعبي، حتى أنه خلال زياراته “القليلة” إلى بلده الأم، كان يمضي وقته “الثمين” في تلقي الهدايا والأوسمة وتلبية الدعوات على الغداء أو العشاء على مائدة كبار القادة السياسيين ورجال الأعمال، غير أن تهمة “التهرّب” الضريبي غير الواضحة المعالم والتي يلاحق بها في اليابان، دفعت هؤلاء إلى إطلاق تصريحات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بعضها مؤيد له وأخرى تشمت به.

النائب السابق فارس سعيد افتتح سلسلة هذه المواقف عندما غرّد على حسابه عبر موقع “تويتر” بالإشارة إلى أن “راتب كارلوس غصن 16 مليون يورو في السنة أي تقريبا 20 مليون دولار ويتهرّب من الضريبة في اليابان” مشدّدا على أن “كارلوس غصن فضح اللبنانيين أينما وجدوا”.

غير أن تغريدة سعيد دفعت النائب ميشال ضاهر إلى الرد عليه عبر الموقع نفسه فقال “أستاذ فارس سعيد لا تستعجل الحكم على كارلوس غص الذي نتغنى في لبنان بنجاحه. يؤسفني أن أسمع حكمك عليه من قرطبا إلى طوكيو، قبل أن يتسنى له الدفاع عن نفسه في المحاكم اليابانية”. وختم “نعم كارلوس غصن فضح اللبنانيين كما ذكرت نعم فضحهم بكشف كمية الحقد في قلوبهم. يا أسفاه”.

ولم يشأ وزير الإعلام ملحم الرياشي أن تمر هذه المناسبة دون أن يدلي بدلوه، فقال في تغريدة “أتمنى على الرئيس عون ودولة الرئيس الحريري التدخل والتواصل من دون إبطاء مع حكومة اليابان في قضية اللبناني الأصل الناجح جدا كارلوس غصن.. التحقق ضروري للغاية”. وأرفق تغريدته بموقف لافت، إذ أدرج هاشتاغا بعنوان “ريحة مش نظيفة! #لبنان #كارلوس_غصن”.

ومن جهته اعتبر الوزير السابق فادي عبود عبر “تويتر” أن “من يستطيع وقف الهدر وزيادة فعالية رينو ونيسان يستطيع حتما أن يفعل الشيء نفسه في لبنان”، معتبرا أنّ “حجم الشركتين المالي أكبر بكثير من لبنان”.

وختم عبود قائلا “بالإذن من كل الزعماء، الشعب يريد كارلوس غصن وزيرا للمالية مع سوبر صلاحيات. هكذا نبدأ بالإصلاح”.

ينحدر غصن من لبنان لكنه وُلد في بورتو فاليو في البرازيل عام 1954 وعاش فيها حتى سن السادسة. أصيب عندما كان عمره عامين بمرض معوي نتيجة شربه ماء ملوّث، فانتقلت به والدته إلى ريو دي جانيرو، ولم يتعاف تماما هناك. وفي العام 1960 انتقل مع والدته وأخته إلى بيروت حيث تعيش جدته، والتحق بمدرسة سيدة الجمهور خلال مرحلة الدراسة الإعدادية قبل أن يكمل دراسته التحضيرية في باريس في كلية ستانيسلاس وثانوية سانت لويس.

تابع دراسته الجامعية في البوليتكنيك، وهي أشهر مدارس فرنسا والعالم للهندسة، فتخرج في العام 1974 بدرجة بكالوريوس في الهندسة ثم تابع تخصصه في المدرسة الوطنية العليا للمناجم في باريس التي تخرج منها في العام 1978.

بدأ غصن مسيرته المهنية فور إنهاء دراسته الجامعية حيث حصل على وظيفة في مصنع الإطارات الخاص بشركة “ميشلان” الفرنسية المرموقة، وتمكّن خلال فترة قصيرة من تولي إدارة أحد مصانع الشركة، قبل أن يعيّن في أواسط ثمانينات القرن الماضي رئيسا لإدارة مركز أبحاث تطوير الإطارات الصناعية في الشركة.

أوفدته الشركة إلى مسقط رأسه في البرازيل لحلّ المشكلات الصعبة التي كان يواجهها مصنع الشركة هناك وتولى إدارة العمليات في المصنع ليصبح لاحقا مديرا عاما للشركة تشمل صلاحياته كل دول أميركا الجنوبية وهو لم يكن قد تجاوز بعد الثلاثين من العمر.

وخلال عامين تمكن غصن من تحقيق النجاح الباهر وعادت شركة “ميشلان” إلى تحقيق الأرباح في أميركا الجنوبية. فكافأته الشركة بتعيينه مديرا لقسم أميركا الشمالية حيث أشرف على اندماج “ميشلان” مع شركة إطارات أميركية محلية لكن رغم نجاحه في كل المهام والوظائف التي تولاها في الشركة، إلا أن طموح غصن كان يقف أمام معضلة متمثلة في عدم تمكّنه من تسلّق السلّم إلى القمة إذ أن الشركة مملوكة لأسرة “ميشلان” وكان رئيسها فرنسوا ميشلان يُعد نجله لخلافته.

غير أن التحوّل الكبير في مسيرة غصن المهنية لاح أمامه أواسط التسعينات، بعدما اتصل به رئيس شركة “رينو” الفرنسية للسيارات والتي كانت تعاني من خسائر مستمرة، وأقنعه بالانضمام إليها، فكان أول قرار اتخذه غصن بعد توليه مهامه إغلاق مصنع الشركة في بلجيكا وتسريح 3300 عامل ما أدّى إلى انتعاش الشركة وازدياد مبيعاتها خلال فترة قصيرة.

وهكذا نجح غصن في إعادة الانتعاش الاقتصادي وزيادة أرباح “رينو” بعد أن أقدم على إعادة هيكلة جذرية للشركة ما أدّى إلى منحه لقب “قاتل الكلفة”.

ومع النجاح الكبير الذي حققته “رينو” مع غصن، اتخذت الشركة خطوة جريئة للغاية واشترت حوالي 45 بالمئة من أسهم شركة “نيسان” اليابانية مقابل 7 مليارات دولار، وأوفدت غصن إلى اليابان لتولي مجلس إدارتها هناك.

وكانت “نيسان” قد راكمت ديونا بلغت قيمتها 20 مليار دولار نتيجة الخسائر المستمرة خلال السنوات السبع السابقة، فأغلق غصن خمسة مصانع وسرّح 21 ألف عامل وجعل اللغة الإنكليزية اللغة الرسمية في الشركة ومنح مكافآت للمديرين الذين يتقنونها.

ونتيجة إنقاذه لشركة “نيسان” من الإفلاس الموشك، حصل على لقب “السيد حلَّال المشاكل”. وقد لعب غصن دورا أساسيا في إقامة التحالف بين “رينو” و”نيسان”، قبل أن تعقد الشركتان في العام 2016 تحالفا مع الشركة اليابانية العملاقة لصناعة السيارات “ميتسوبيشي” لتشكّل الشركات الثلاث تحالفا منافسا قويا لتحالف فولكسفاكن-تويوتا.

عين غصن رئيسا تنفيذيا لشركة “رينو”، وعندما تولى منصب الرئيس التنفيذي لتحالف “رينو” و”نيسان”، أصبح بذلك أول شخص في العالم يدير شركتين في قائمة فورتشين غلوبال 500 في وقت واحد.

وقسّم غصن الذي يحمل الجنسيات البرازيلية والفرنسية واللبنانية وقته بين باريس وطوكيو وكان يقطع سنويا ما يقارب 150 ألف ميل في الطائرات، متحدثا خمس لغات بطلاقة هي الفرنسية والبرتغالية والإنكليزية والعربية واليابانية.

لم يقطع غصن علاقته مع بلده لبنان، وهو عضو في مجلس أمناء مستشفى سان جورج في بيروت، وقد تم التداول باسمه كمرشح محتمل للرئاسة، لكن غصن أوضح أن ليست لديه أي نية للعمل في السياسة.

كثيرة هي الألقاب والأوسمة والجوائز التي منحت لغصن ومن ضمنها لقب “رجل أعمال آسيا” الذي منحته إياه مجلة فورتشين عام 2002، و”رجل العام” من قبل مجلة فورتشين الطبعة الآسيوية عام 2003، كما تم إدراج اسمه كأحد أقوى 10 رجال أعمال خارج الولايات المتحدة في العام 2003.

يحمل غصن أيضا لقب “فارس فخري” للإمبراطورية البريطانية منذ العام 2006، ومنحه ملك إسبانيا وسام إيزابيلا الكاثوليكية “الصليب الكبير”، وهو وسام شرفي للمدنيين كعرفان لما يقدمونه من خدمات لإسبانيا، كما نال جائزة “إنجاز العمر” من جمعية الإدارة الاستراتيجية، وهي جمعية غير ربحية تعمل على تعزيز أخلاق إدارة الأعمال حيث أصبح أول شخص في صناعة السيارات، ورابع شخص في العالم يفوز بهذه الجائزة وذلك في أكتوبر 2012.

لكن مسيرة غصن الساطعة في قطاع صناعة السيارات والإدارة اصطدمت بحائط صعب في 19 نوفمبر 2018 حيث ألقت السلطات اليابانية القبض عليه في طوكيو لاستجوابه حول مخالفات مالية.

شركة “نيسان” أعلنت أنها أجرت تحقيقا داخليا لعدة أشهر، أظهر أن غصن كان يقلل من قيمة دخله في الأوراق الرسمية، وأشارت إلى أنها عثرت على العديد من الأفعال الهامة الأخرى من سوء السلوك بما في ذلك الاستخدام الشخصي لأصول الشركة، مشيرة إلى أنها قدمت تلك المعلومات إلى مكتب المدعي العام الياباني وستواصل القيام بذلك.

لكن الأسئلة كثيرة وهي تحوم حول هذه القضية “الغامضة” لغاية اليوم، إذ هل يعقل أن يقدم رجل بمكانة غصن على التهرّب الضرائبي؟ سؤال مشروع يتم تداوله كثيرا، خصوصا أن مكتب المدعي العام الفرنسي أعلن أن التحقيقات التي أجريت حول تصاريح غصن المالية لم تظهر أي تخلّف عن تسديد موجباته الضريبية، ما يعزّز من الشائعات التي تحوم حول مكيدة قد تكون نصبت له في اليابان لكي تنهار قيمة أسهم شركة نيسان في السوق المالية.

أما “محامو الشيطان” فيقولون أيضا ان هذه الأزمة التي نسجت حول غصن، هي مكيدة اقتصادية قد تقف وراءها أجهزة استخبارات غربية بهدف ضرب الاقتصاد الأوروبي وتحديدا الفرنسي إذ أن أسهم شركة “رينو” انخفضت فور شيوع نبأ اعتقال غصن بما نسبته 15 بالمئة في الأسواق المالية، وهذه كارثة مالية كبيرة لن تتمكن الشركة من تعويضها قريبا.

أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ووفقاً لمسؤولين في الاستخبارات الفرنسية، فلم يكن لديه أي فكرة عن أن شركة نيسان موتورز تستعد للإطاحة بغصن.

فهل كان “حلاّل المشكلات” ضحية إضافية تقدّم على مذبح المصالح “المافياوية”، أم أنه فعلا أوقع نفسه في “مشكلة” الجواب عنها ستكشفه الأيام المقبلة.