IMLebanon

العجز الأعلى في “ميزان المدفوعات” منذ الاستقلال!

كتبت فيفيان عقيقي في صحيفة “الاخبار”:

سجّل ميزان المدفوعات اللبناني عجزاً قياسياً جديداً، إذ بلغت قيمته الحقيقية المتراكمة في الشهور التسعة الأولى من هذا العام نحو 4.8 مليار دولار، بالمقارنة مع 189.9 مليون دولار في الفترة نفسها من عام 2017، وذلك وفقاً للبيانات التفصيلية المنشورة على موقع مصرف لبنان. وهذه القيمة هي أعلى بنحو 3.5 مليار دولار من قيمة العجز الذي أعلنه مصرف لبنان حتى أيلول (-1.3 مليار دولار)، بموجب المنهجية الحسابية المعدّلة، التي اعتمدها منذ تشرين الثاني من العام الماضي، والتي أدرج فيها محفظته من سندات دين الحكومة اللبنانية بالعملات الأجنبية (يوروبوندز) خلافاً للمنهجية السابقة المعتمدة في معظم البلدان الأخرى.

يعدّ هذا العجز مؤشراً خطيراً بإجماع الاقتصاديين والمصرفيين، ويؤدّي استمراره إلى تراجع احتياطات العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان وزيادة الضغوط على سعر الليرة. إلا أن مدير العمليات في مصرف لبنان يوسف الخليل يطمئن إلى أن هذه الضغوط هي تحت السيطرة، في ظل «تكوين مصرف لبنان احتياطات مرتفعة بالعملات الأجنبية، وفي ظل الإجراءات التي قام بها للتحكم بالسيولة بالليرة اللبنانية» (عبر إصدار تعاميم تقضي بخفض نسبة القروض بالليرة إلى الودائع بالليرة حتى 25%، وتشجيع الإيداع بالليرة لقاء فوائد مرتفعة، فضلاً عن إطالة آجال بعض فئات الودائع من متوسط 45 يوماً إلى 13 شهراً، والحدّ من إمكانية كسر الودائع المجمّدة قبل استحقاقها).

عجزٌ مزمن ومتنامٍ

في الواقع، تُبيّن الإحصاءات المتوافرة أن هذا المستوى القياسي من العجز في ميزان المدفوعات لم يشهده لبنان سابقاً، حتى في سنوات الحرب الأهلية، إذ للمرّة الأولى في تاريخه منذ الاستقلال يسجّل لبنان عجوزات لسنوات عدّة متتالية، بدأت منذ عام 2011 ولا تزال متواصلة، فيقدّر العجز المتراكم في هذه الفترة بنحو 14.8 مليار دولار، أي أن رصيد الأموال الخارجة من لبنان في 7 سنوات و9 أشهر ماضية كان أعلى بهذه القيمة من رصيد الأموال التي دخلت إليه، وهذا يعني أن 76% من الفوائض المحققة بين عامي 2006 و2010 قد استنزفت.

لم ينجح مصرف لبنان بعكس هذا الاتجاه، على رغم الهندسات المالية والعوائد السخية التي يمنحها للمصارف وكبار المودعين لنقل بعض ودائعهم من الخارج إلى لبنان. ففي عام 2016، أجرى مصرف لبنان واحدة من أكبر الهندسات المالية لدعم ميزان المدفوعات، ودرت أرباحاً فورية واستثنائية للمصارف وكبار المودعين بقيمة 5.6 مليار دولار، إلا أن ذلك لم يحقق فائضاً في ميزان المدفوعات إلا في عام 2016 فقط، ليعود بعده إلى تسجيل العجوزات.

في تشرين الثاني من العام الماضي، وفي ظل أزمة احتجاز رئيس الحكومة سعد الحريري في السعودية، ظهرت موجة هروب للودائع قدّر حجمها بنحو 2.7 مليار دولار، فسارع مصرف لبنان إلى تعديل طريقة احتساب ميزان المدفوعات لتمويه العجز المتفاقم، عبر إضافة سندات دين الجمهورية اللبنانية بالعملات الأجنبية (اليوروبوندز) التي بحوزته (أي الأموال التي أقرضها للدولة اللبنانية بالعملات الأجنبية) إلى صافي أصوله بالعملات الأجنبية. وقد علّق الأمين العام لجمعية المصارف مكرم صادر على هذه الطريقة الحسابية، في النشرة الشهرية للجمعية، أنها «لا تصبح حقيقية إلّا إذا استطاع مصرف لبنان بيع ما ينوي احتسابه إلى أشخاص غير مقيمين، بما يُدخِل فعلياً سيولة بالعملات الأجنبية إلى موجوداته الخارجية». وهذا الموقف عبّر عنه أيضاً المدير التنفيذي في «بلوم بنك»، فادي عسيران، الذي اعتبر التعديل الحسابي «مش صحيح بالمبدأ»! لكن على رغم هذا التعديل في احتساب ميزان المدفوعات، فهو لم يخدم طويلاً، إذ وصل العجز وفق الطريقة الجديدة المعدّلة إلى 1.3 مليار دولار في أيلول الماضي، أي أنه بقي في حالة عجز حتى بعد إضافة سندات «اليوروبوندز».

سعر صرف أم نموذج؟

بداية، ما هو ميزان المدفوعات؟ في التعريف المُعتمد من صندوق النقد الدولي، هو «بيان إحصائي لتسجيل كلّ التدفقات المالية وغير المالية ما بين المقيمين في بلد ما وغير المقيمين فيه (مثل البضائع والخدمات والسياحة والتدفقات الرأسمالية والاستثمارات الخارجية المباشرة والتحويلات والمساعدات والمنح)، بغض النظر عن العملات التي تتمّ فيها هذه التدفقات. فإذا سجّل الميزان فائضاً فهذا يعني أن التدفقات الواردة أكبر من التدفقات الصادرة، وإذا كان عاجزاً فذلك يعني أن التدفقات الصادرة أكثر من التدفقات الواردة».

وينقسم ميزان المدفوعات إلى ثلاثة أبواب: 1 – الحساب الجاري الذي يختصر التبادلات التجارية من السلع والخدمات والهبات والدخل. 2 – الحساب الرأسمالي الذي يختصر صافي التحويلات التي تمثّل استثمارات وعمليات تملّك لوسائل الإنتاج والأصول الثابتة وغيرها من الاستثمارات الرأسمالية. 3 – الحساب المالي الذي يمثّل صافي العمليات التي تشكّل التزامات مالية وودائع وتملّك سندات دين وغيرها من العمليات المالية.

في الحالة اللبنانية، يعدّ هذا المؤشر من أهم المؤشّرات، فوفقاً للاقتصادي شربل نحّاس فان «متابعة تطوّر ميزان المدفوعات أمر مهمّ جدّاً بالنسبة لبلد مثل لبنان، لأنه دليل عن حاجة البلد إلى أموال أجنبية للمحافظة على سعر ثابت لليرة، ولتمويل العجز في الميزان الجاري الناجم عن العجز التجاري، أي الفارق بين قيمة الواردات وقيمة الصادرات». ويشرح نحّاس أن «الحصول على هذه الأموال يتمّ عبر الاستدانة من أطراف خارجية، وهو أمر موجود ولكنه غير طاغٍ، أو عبر بيع الأصول ولا سيّما العقارات وهو نمط استمرّ لسنوات وساهم برفع سعر العقار وضرب القطاعات الإنتاجية، أو عبر هجرة الشباب للعمل في الخارج وإرسال تحويلات إلى أهاليهم في لبنان، وهو الطاغي». أمّا المشكلة، وفق نحّاس، فتبرز عندما تصبح قيمة هذا التمويل غير كافية لتمويل العجز، إذ «يؤدّي استمراره إلى تراجع احتياطات العملات الأجنبية بما يؤثّر في سعر صرف الليرة ويزيد الضغوط عليها، فيتمّ اللجوء إلى تقليص الاستيراد لتوفير قيمة الفاتورة الاستيرادية، وتقنين الكهرباء بسبب تراجع القدرة على شراء الفيول، مع ما يعنيه ذلك من تراجع في كمّيات المواد الغذائية والأدوية والحاجات الأساسية للناس، والتي هي غالبيتها مستوردة من الخارج فضلاً عن ارتفاع أسعارها».

من الواضح أن تحوّل العجز في ميزان المدفوعات إلى سمة بنيوية مزمنة يؤدّي إلى تفاقم المديونية الخارجية، وكذلك تراجع احتياطات العملات الأجنبية، فضلاً عن صعوبة الحصول على التمويل. تزداد الضغوط على سعر الصرف ويدخل الاقتصاد في ركود وتتراجع الاستثمارات ويضمر الاستهلاك. عادة، تلجأ الحكومات إلى إجراءات قاسية لإعادة التوازن إلى ميزان المدفوعات، عبر خفض سعر الصرف، وتقليص الاستيراد، وزيادة الصادرات… إلا أن الحالة اللبنانية لا تبدو متوافقة مع إجراءات كهذه،إذ إن انخفاض سعر الصرف في الثمانينات وبداية التسعينيات، وفق وزير المال السابق جورج قرم، لم يساهم في استعادة التنافسية وزيادة التصدير للحصول على العملات الصعبة.

تنصّ المادة 72 من قانون النقد والتسليف على أن «للمصرف المركزي أن يقترح على الحكومة التدابير التي يرى أن من شأنها التأثير المفيد في ميزان المدفوعات وحركة الأسعار والمالية العامّة والنمو الاقتصادي. وأن يطلع الحكومة على الأمور التي يعتبرها مضرّة بالاقتصاد والنقد». كما للحكومة أن «تستشير المصرف في القضايا المتعلّقة بالنقد وتدعو حاكم المصرف للاشتراك في مذكّراتها حول هذه القضايا». الواضح من نص القانون، أن مسؤولية التصدي لأزمة العجز في ميزان المدفوعات تقع على الحكومة، وأن دور البنك المركزي محصور بالمشورة ورفع الاقتراحات والتوصيات، ولكن ما يحصل اليوم أن الحكومة لا تفعل شيئاً، سواء تشكّلت أو تعطلت، فيما يحتكر البنك المركزي السياسة الاقتصادية ويستخدم الأدوات النقدية المكلفة، ولا يوجد من يسائله أو حتى يسأله.