IMLebanon

كيف أفشلت فنلندا حرب النيوميديا الروسية ضدها؟

كتب محمد خلف في صحيفة “الحياة”:

فنلندا هي الدولة الوحيدة حتى الآن التي تصدت لحرب روسيا الإلكترونية ضدها على خلاف الدول الغربية الأخرى على رغم أن الكرملين نسج حملاته الدعائية العدوانية في سياق طقوس استعراضات القوة العسكرية على الحدود المشتركة بين الدولتين. تشهد فنلندا مثل جميع الدول الأوروبية الأخرى هجمات إلكترونية روسية تحولت خلال السنوات الأخيرة الى حرب باردة جديدة ولكنها رقمية تستلهم التقنيات التي أنجزها الغرب نفسه وفي طليعتها النيو الميديا التي تحولت بيد روسيا والدول الدائرة في فلكها الى سلاح لإضعاف الدول الأوروبية وتفتيت مجتمعاتها من خلال نشر الكراهية والتعصب الديني والعرقي والطائفي في أوساطها وتخريبها من الداخل. تثق هلسنكي بما تمتلكه من أدوات ووسائل تعتقد بأنها كافية لمواجهة العدوانية الروسية على الانترنت، وتقويض أي هجوم إلكتروني من جارتها الشرقية، معتمدة على المجتمع الفنلندي بفئاته المتعددة وما يمتلكه من بنية تحتية ثقافية وتعليمية صلبة، إضافة الى التاريخ الطويل من العلاقات المنفتحة والمتوازنة مع روسيا. هلسنكي تمتلك أيضاً استراتيجية متماسكة تعتمدها الحكومة والمؤسسات الرسمية المعنية لنزع سلاح الدعاية المنسقة والمعلومات المزيفة القادمة من روسيا. يقول مدير مركز فرانكلين روزفلت في جامعة هارفرد البروفسور جيد وولرد «إن الطريقة المثلى للتعامل مع الأخبار المزيفة التي مصدرها روسيا ليس فقط تصحيح المعلومة أو الخبر، وإنما تقديم وعرض محتوى إيجابي والحرص على ديمومته». ورأى محللون «أن الاستجابة الأفضل لهذا «الفيض من الأكاذيب» ليست في الرد على كل كذبة، بل التحذير المسبق والتحصين ضد هذه الدعاية والتزييف الواضح للمعلومات».

وضع وولرد بموجب اتفاق مع الحكومة الفنلندية برنامجاً في الإدارة الديبلوماسية يمكن من خلال محتوياته معرفة وتصنيف الأخبار الكاذبة، وطرق وأساليب وأشكال نشرها وكيفية مواجهتها بمعلومات دقيقة مضادة. في تشرين الأول (اكتوبر) 2015 أقر الرئيس الفنلندي ساولي نينيستو بأن «الحرب المعلوماتية أصبحت أمراً واقعاً بالنسبة الى فنلندا»، وقال «إن من واجب كل مواطن في البلاد التصدي لها ومكافحتها»، وبعد أقل بنحو ثلاثة أشهر وبالتحديد في كانون الثاني (يناير) 2016 قامت الحكومة باختيار طاقم من 100 موظف حكومي للعمل في البرنامج وإنجاز مهمة اكتشاف وتصنيف الأخبار الكاذبة ونشر معلومات مضادة لها وفق التعليمات والإرشادات التي يقدمها وولرد.

فنلندا دولة متجانسة، يبلغ عدد سكانها 5,4 مليون نسمة وتحتل طليعة الدول في تصنيف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في جودة الحياة، يضاف الى ذلك تبنيها سياسة اجتماعية قوية ونظم تعليم متميزة تعتبر الأفضل في العالم، وكذلك منظومات الصحة والخدمات الطبية المتطورة.

حريات صحافية متميزة

أظهر تصنيف عام 2016 أن فنلندا تحتل المركز الأول في حرية الصحافة في العالم. يقول إيلكا نوسيانين رئيس فرع منظمة «مراسلون بلا حدود» في فنلندا: «إننا فخورون جداً بأنّنا نلنا هذا التصنيف المرتفع على سلّم هذا المؤشر المهم الذي يحظى باحترامٍ واسعٍ من جانب المنظمات الدولية». ويعزو نوسيانين هذا التصنيف إلى المستويات العالية من الحرية التي يتمتع بها الصحافيون في أعمالهم اليومية، ويقول: «يستطيع صحافيونا الكتابة بحريةٍ ومن دون تدخل مالكي وسائل الإعلام أو الحكومة. كما أن لدينا قوانين ومؤسساتٍ فعالة جداً للمساعدة في ضمان حرية الصحافة».

يتميز الفنلنديون بنظرتهم الفكرية الثاقبة والانتقادية، ويرى وولرد «أن هذه الصفة أفادت عند رسم وتحديد الموقف الرسمي من طبيعة وشكل الرد الدفاعي القوي ضد المحاولات الخارجية الهادفة الى حرف الحقائق بهدف تقويض الثقة المجتمعية بالمؤسسات الديموقراطية في البلاد»، وقال: «في الواقع إن هذه هي الحرب ولو في شكل آخر، إلا أن الفنلنديين تنبهوا الى ذلك وأدركوا خلفياته بسرعة مكنتهم من النجاح في مواجهة هذه المشكلة». ووفق السفير الفنلندي السابق في موسكو رينيه نيبرك، «إن الفنلنديين يمتلكون مسبقاً أدوات محورية في ما يتعلق بالتصدي للدعاية الروسية».

عانت فنلندا من تجربة مؤلمة في العلاقات مع روسيا عندما وجدت نفسها في حرب 1939 التي سميت بـ «حرب الشتاء»، وذلك بعد ثلاثة أشهر من اندلاع الحرب العالمية الثانية حيث احتل الاتحاد السوفياتي وقضم 11 في المائة من أراضي فنلندا وصادر 30 في المائة من أصولها الاقتصادية. بعد ذلك، عاشت البلاد تجربة الحرب الباردة . ويشير وولرد الى «أن هذه التجارب العصيبة حصنت فنلندا وجعلتها تدرك بعمق الدوافع الحقيقية الروسية». ويقول البروفيسور اوغنيان منتشيف من كلية العلوم السياسية بجامعة صوفيا: «تعي فنلندا أيضاً أنها ستظل هدفاً أساسياً لروسيا في خططها الرامية الى تفتيت الوحدة الأوروبية». وقال نيبرك في تصريح لمجلة «فورين بوليسي» إن «ألمانيا هي الهدف الحقيقي. إذ إن مركل هي الطبق الأساسي، أما فنلندا فليست سوى مقبلات فاتحة للشهية».

قوة ناعمة سلبية

تستخدم روسيا حرب المعلومات في شكل هجومي بهدف تقويض الخصوم، ويعتبر بعض خبراء النيوميديا هذا الأسلوب بأنه «قوة ناعمة سلبية». اذ من خلال مهاجمة قيم الآخرين، يستطيع المرء أن يقلل من جاذبيتهم وبالتالي قوتهم الناعمة النسبية. وتشير الأدلة المتاحة إلى أن هدف الروس -عندما بدأوا العام 2015 التدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية- كان تلويث وتشويه سمعة العملية الديموقراطية في الولايات المتحدة. أما الآن، فيهدف التدخل الروسي في السياسة الداخلية للديموقراطيات الأوروبية إلى الحد من جاذبية الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، الذي يجسد القوة الصارمة الغربية التي ترى فيها روسيا تهديداً خطيراً.

تذهب حرب المعلومات كما يقول البروفسور ميلكو بتروف من كلية الصحافة والاتصلات بجامعة صوفيا، إلى ما هو أبعد كثيراً من القوة الناعمة، وهذا ليس جديداً. فالتلاعب بالأفكار والعمليات الانتخابية -عبر المكافآت المالية- يرجع إلى تاريخ طويل، وكان هتلر وستالين من الرواد في الهجمات الإذاعية. وفي الواقع انه بالإضافة إلى الناطقين بلسان الديبلوماسية الرسمية مثل قناة «روسيا اليوم» ووكالة»سبوتنيك»؛ توظف روسيا جيوشاً من المتصيدين المأجورين وشبكات الروبوت، لتوليد معلومات كاذبة يمكن نشرها في وقت لاحق، وإضفاء الشرعية عليها كما لو كانت صحيحة. وعلى رغم أن حرب المعلومات ليست جديدة، فإن التكنولوجيا السيبرانية تجعلها أرخص وأسرع وأبعد مدى، كما تزيد صعوبة اكتشافها وسهولة إنكارها. ووجد المعهد الفنلندي للعلاقات الدولية في دراسة أعدها العام «2016 أن الدعاية الروسية كانت ضئيلة التأثير في وسائل الإعلام الغربية السائدة، ولم تسفر قط عن أي تغيير في السياسات».

يتفق خبراء الميديا الفنلنديون على صعوبة تتبع المنصات الروسية التي تنشر الأخبار والأحداث المفبركة وربطها بالكرملين مباشرة. ويرى الصحافي اوغنيان جورجييف» أن روسيا لكي تضفي المصداقية على ما تنشره من أخبار ملفقة تلجأ في بعض الأحيان الى استخدام أحداث أو وقائع فعلية ولكنها تقوم بتحويرها فتصبح قصصاً مختلفة تماماً عن الحدث الفعلي، وذلك بالشكل يخدم مخططاتها في إحداث التوترات بين الفئات المتعددة في المجتمع ونسف الثقة بين المواطنين والحكومة والمؤسسات الديموقراطية، وهي أخبار تنتشر بوتائر سريعة في الميديا المحلية ووسائل التواصل الاجتماعي وتتعلق غالبيتها باللاجئين والمهاجرين وعمل المؤسسات والهياكل الأوروبية.

فنلندا التي وفق مؤشر الفساد لمنظمة الشفافية العالمية هي واحدة من ثلاث دول في العالم يكاد ينعدم فيها الفساد اذ هو في أدنى مستوياته المألوفة، كما وتتميز بقلة أعداد مواطنيها الناطقين بالروسية على خلاف جاراتها القريبة من دول البلطيق الذين حولتهم موسكو الى طابور خامس تستخدمه لتقويض الديموقراطية في هذه البلدان التي نالت عضوية الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، وهو شيء لم تستطع تحقيقه في فنلندا الى درجة ان مجلة «سبوتنيك» الروسية التي يمولها الكرملين من ميزانية الدولة والصادرة باللغة الفنلندية اضطرت العام 2016 الى التوقف والإغلاق لعدم اجتذابها ما يكفي من القراء. وقال المدير العام للاتصالات في مكتب رئيس الحكومة الفنلندية ماركو مانتيلا» إن الفنلنديين على مستوى رفيع من التعليم والمعرفة، ولهذا فإنه من الصعب اختراق حصانتهم الفكرية والمعرفية وقوة إحساسهم الانتقادي لكل القضايا الحساسة والأساسية». وكشفت السلطات الفنلندية المعنية عن رصد 20 شركة كبرى لنشر الأخبار الكاذبة والمعلومات المفبركة ضد الدولة ومؤسساتها المختلفة والعملية الديموقراطية مصدرها المباشر روسيا.

منصات للمعلومات المضللة

تركز منصات الدعاية الروسية وطواقم نشر المعلومات المضللة على اتهام الحكومة بالتمييز العنصري ضد الأقلية الإثنية الروسية. في السياق، بثت قنوات تمولها الحكومة الروسية مجموعة من الريبورتاجات عن مواطنين يحملون الجنسية المزدوجة الروسية والفنلندية تم طردهم من وظائفهم في القوات المسلحة، أو عن قيام البرلمان الفنلندي بالنظر في مشروع قانون يمنع هؤلاء المواطنين من امتلاك أراض أو عقارات في مناطق قريبة من الثكنات أو القواعد العسكرية. كما وتتهم الميديا الروسية السلطات الفنلندية باختطاف أطفال خلال مناقشات ومداولات تُجرى حول الرعاية الاجتماعية للأطفال، إضافة الى معارك وهمية للوصاية على عقود الزواج الفنلندية- الروسية.

تقول مؤلفة كتاب (Info war) الذي يتناول حرب الدعاية الروسية ضد فنلندا سارة يانتونين» لا يتعلق الأمر بالعلاقات بين فنلندا وروسيا، بل بنوع آخر من الخطاب يجد من يتقبله في المجتمع الفنلندي».

لعل إحدى العلامات الفارقة في النهج المعلوماتي الروسي المضاد في فنلندا والدول الأوروبية الأخرى هي دعم القوى والجماعات المعادية للسامية والشعبوية التي تدعم الرؤى السياسية الروسية. وبرأي الباحث في الشؤون الروسية والأوكرانية وآسيا الوسطى في مجلة «فورين بوليسي» ريد ستانديش إن المعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية، وهو مجموعة بحثية معروفة بروابطها واتصالاتها بالكرملين منذ الحرب الباردة، وكان يديره حتى الى فترة قريبة جنرال من الاستخبارات الروسية اسمه ليونيد ريشتنيكوف، هو من يتولى قيادة العمليات السرية في أوروبا. وقال «إن جوهر الحملات الروسية ضد الحلف الأطلسي، والهدف الذي تسعى الى تحقيقه المنصات الروسية والترولات التي تتأسس وتدار خارج روسيا هو تشويه سمعة الشخصيات العامة في فنلندا التي تعرف بمواقفها الانتقادية والمناهضة لسياسات الكرملين في البلاد وأوروبا والعالم».