IMLebanon

صنعاء على رقعة الشطرنج

كتب هاني سالم مسهور في صحيفة “العرب” اللندنية:

لا تبدو الأزمة اليمنية بحربها واستعصاء حلها السياسي قادرة على أن تخرج من دائرة الاحتراب بكافة الأبعاد السياسية والعسكرية والاقتصادية. فمرحلة التدويل مازالت في بداياتها الأولى، فما بعد اتفاق السويد ليس كما كان قبله، ويبدو أن الحوثيين نجحوا في تحقيق معادلة الاستنزاف السياسي مقابل الاستهلاك الإعلامي التي باتت فيها الشرعية بلا طعم أو لون، وهي تغرق في ترديد عبارة المرجعيات الثلاث، بينما حدثت متغيرات كثيرة أسقطت بالضربة القاضية قراري مجلس الأمن الدوليين 2451 و2452 تواليا.

حتى نستطيع أن نفهم ماذا يدار في اليمن علينا أن نلقي نظرة سريعة على ما يجري في لبنان، فكلا المشهدين لا يكادان ينفصلان عن بعضهما. ففيما يصر حزب الله على تعطيل التشكيل الحكومي وتظهر قوى 14 آذار فاقدة للتأثير السياسي إلى درجة الشلل فيما تتأكد يوما بعد آخر قدرة ما يمتلكه حزب الله ومن معه على الإمساك بمفاصل الدولة اللبنانية، جاءت الدعوة إلى انعقاد مؤتمر تأسيسي يعيد التركيبة السياسية اللبنانية وينهي اتفاق الطائف، ويراهن حزب الله من خلاله على إغراق لبنان في الأزمات الاقتصادية المتفاقمة كورقة ضغط من أوراق أخرى سياسية وأمنية تزيد المتاعب على اللبنانيين وتستنزفهم، لتحقيق الهدف الأهم المتمثل في الخروج من اتفاق الطائف وصياغة عقد سياسي جديد يتوافق مع مكتسبات ما يسمى محور المقاومة.

في اليمن يحدث الأمر ذاته، فالحوثيون وإن أجبروا عبر العصا الأميركية الغليظة على الانخراط في مشاورات السويد فإنهم منذ البداية في مشاورات جنيف 1 كانوا قد وضعوا أهدافا محددة لم تتغير منذ العام 2015 وتتمثل في إعادة التركيبة السياسية بموجب المتغيرات التي نتجت بعد انقلابهم في 21 سبتمبر عام 2014، ويدرك الحوثيون أن العملية السياسية المستندة على مرجعية المبادرة الخليجية من الصعوبة بمكان تجاوزها، تماما كما يدرك حزب الله في لبنان صعوبة تجاوز اتفاق الطائف، لذلك تبقى الأزمة في مضمونها مسألة تغيير للعقد السياسي مهما كانت التكلفة السياسية والاقتصادية على اليمن أو على لبنان.

يبقى أن نتساءل هنا ما هي الفرص الممكنة للحوثيين لتحقيق ما يهدفون إليه؟

وهنا يلزمنا العودة إلى المشهد الدولي الذي تبدو فيه الولايات المتحدة غير ممتلكة لرؤية سياسية ليس في اليمن فقط، بل في كافة ملفات الشرق الأوسط حتى مع استراتيجيتها المعلنة ضد إيران. فحالة التشويش لدى الإدارة الأميركية ومشكلاتها الداخلية المتفاقمة تفقد البيت الأبيض الدور السياسي القادر على التأثير المباشر في المشهد اليمني، وفي هذا السياق لا بد من استعادة تلك الأيام التي سبقت صدور القرار الدولي 2451 عندما اعترضت روسيا على إشارة مشروع القرار البريطاني لإدانة إيران، ولوحت باستخدام حق النقض “الفيتو” ضد القرار مما جعل الولايات المتحدة تتراجع لتمرير القرار الذي كفل وقف العمليات العسكرية في الحديدة.

وفي المشهد الدولي لا تمتلك أوروبا أي قدرة على التأثير، فالأوروبيون يعيشون أضعف أحوالهم سياسيا منذ ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. فأهم العواصم الأوروبية لندن وباريس وبرلين تخضع لأزمات سياسية غير مسبوقة، ولم تعد أوروبا تمتلك قدرة التغيير والتأثير بأكثر من مجرد ممارسة الضغوط السياسية في كافة أزمات الشرق الأوسط، واليمن ليس ببعيد عن ذلك، فحتى البريطانيون الذين كانوا عازمين على حل الأزمة باتوا لا يملكون ذلك القدر من الحماس نتيجة الوضع السياسي الداخلي في بريطانيا المتصل بأزمة الخروج من الاتحاد الأوروبي.

المشهد الإقليمي يبدو أيضا بحاجة إلى مراجعة نقدية لسنوات الحرب اليمنية، وتبدأ المراجعة من الإقرار بأن مشروع الاعتدال العربي حقق مكتسبات عليه أن يحافظ عليها ويقدم لها الحماية الكاملة، كما يجب قبول أن التحالف العربي خسر القرار الدولي 2216 بعد صدور القرارين الدوليين 2451 و2452، وإن كانت الخسارة جزئية إلا أنها مع ذلك تظل خسارة مؤثرة للغاية.

فالجبهة العسكرية التي كانت الأكثر قدرة على تغيير التوازنات العسكرية كانت في الحديدة وبمجرد صدور القرار 2451 انتهت تلك القدرة، وهو ما انعكس في عموم المشهد اليمني وباتت الصورة واضحة، فجبهة مأرب لم ولن تتحرك باتجاه تحرير أو حتى الضغط على صنعاء، فهذه الجبهة خارج الحسابات وتبقى مرهونة للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي بدوره يبحث عن حصته السياسية التي سيعطيه إياها الحوثيون في التسوية السياسية.

الحوثيون يهدفون إلى جولة الإطار السياسي وهي جزء من أجزاء القرار الدولي 2451، ولذلك يعمد الحوثيون لاستنزاف جهود المبعوث الأممي مارتن غريفيث منذ اللحظة الأولى، ويعرف الحوثيون أن استنزافهم للمجتمع الدولي سيمكنهم من الوصول إلى تلك الجولة حتى وإن قدموا تنازلات في ملف الأسرى والمعتقلين أو في ملف تعز في مقابل أن يتركوا للفريق الآخر الاستهلاك الإعلامي وتفريغ شحنات عدم استيعاب المتغيرات التي طرأت في نهاية العام 2018 وعدم إجادة قراءة المشهد الدولي والإصرار على استخدام الأدوات التي فشلت في الشرعية سياسيا وعسكريا واقتصاديا، وهذا رهان حوثي لم يخسر مع تسليم علي محسن الأحمر زمام الشرعية بعد أن بات الجنرال العجوز ممسكا بالفشل منذ 2016.

صنعاء وبيروت ودمشق وبغداد بيادق إيران على رقعة الشطرنج تتحرك لصناعة وجه مختلف لليمن ولبنان وسوريا والعراق، وفيما يظهر أن الهلال الشيعي أصبح أكثر تصلبا فإن صنعاء ستلحق بهذا المحور ما لم يتم تدارك الخطر بالتوجه نحو حماية عدن وشريطها الساحلي الممتد حتى المهرة، فلم تعد ضرورة فصل الجنوب عن الشمال مجرد دعاوى حقوقية للشعب الجنوبي بمقدار ما بلغت ضرورة أمن قومي عربي تستدعي الفصل بين جسد صحيح وآخر يحمل ورما سرطانيا خبيثا قد يقتل اليمن كله، ويؤثر سلبا على شبه الجزيرة العربية كلها، فمن الضرورة بمكان الفصل تحت بند الضرورات تبيح المحظورات.