IMLebanon

المؤشرات المالية في 2018: فجوة الاختلالات تتضخّم

كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”:

في نهاية 2018 أظهرت المؤشرات المالية عجزاً متزايداً يعكس ارتفاع درجة المخاطر الائتمانية. فقد سجّل ميزان المدفوعات عجزاً بـ4.8 مليارات دولار بالتزامن مع نزف في احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية بـ2.3 مليار دولار. كذلك سُجّل معدل نموّ الودائع 3.7%، أي أقلّ من معدلات الفائدة السوقية بأكثر من نقطتين مئويتين. هذه المؤشرات تشير إلى المزيد من تورّم الاختلالات في بنية النظام المالي

من المرتقب أن يأتي إلى لبنان، خلال أيام، وفد من وكالة التصنيف «ستاندر أند بورز» من أجل تقييم درجة المخاطر وإصدار نتيجة التصنيف. التوقعات لا تشير إلى أن هذه الوكالة تنوي خفض التصنيف على غرار ما قامت به وكالة «موديز»، بل ستعطي الحكومة فرصة للتقدّم نحو الإصلاحات المالية، قبل أن تصدر قرارها بخفض التصنيف. هذه الفرصة مبنية على ولادة الحكومة بعد 9 أشهر من المراوحة والمناكفات السياسية حول توزيع الحصص والحقائب، إلا أن هذا الأمر لا يلغي تداعيات التطورّات الخطيرة في الوضع المالي والاقتصادي التي تبقى قائمة بالاستناد إلى المؤشرات المالية في نهاية 2018، التي أظهرت أن الاختلالات المالية في لبنان تتعرض لمزيد من التورّم الناتج من النزف الحاصل في العملات الأجنبية بسبب قلق المودعين وتدهور ثقتهم بالوضع المالي.

في الواقع، إن ارتفاع درجة المخاطر الائتمانية للبنان يأتي رغم التطورات السياسية الأخيرة، أي تأليف الحكومة التي خلقت نوعاً من الاستقرار الظرفي الهشّ في انتظار ما ستقوم به من خطوات بعد إعداد البيان الوزاري ونيلها الثقة في مجلس النواب.

وهذه المخاطر تظهر بوضوح في المؤشرات المالية التي صدرت أخيراً عن أرقام عام 2018. فقد تبيّن أن ميزان المدفوعات سجّل عجزاً بقيمة 4.8 مليارات دولار في نهاية 2018، مقارنةً بعجز بقيمة 155.7 مليون دولار في 2017. وهذه القيمة أعلى بنحو 3.5 مليارات دولار من قيمة العجز المعلن، بالاستناد إلى المنهجية الحسابية المعدّلة التي اعتمدها مصرف لبنان منذ تشرين الثاني من العام الماضي، التي أدرج فيها ما يحمله من سندات دين الحكومة اللبنانية بالعملات الأجنبية (يوروبوندز) خلافاً للمنهجية السابقة المعتمدة في معظم البلدان الأخرى.

على أي حال، بدأ عجز ميزان المدفوعات في عام 2011، واستمرّ للسنوات اللاحقة، باستثناء عام 2016 حين نفذ مصرف لبنان هندسات مالية واسعة، إلا أنه رغم ذلك، بلغت قيمة العجز المتراكم 14.8 مليار دولار، أي إنه خلال 8 سنوات خرجت مبالغ من لبنان تفوق تلك التي دخلت إليه بقيمة 14.8 مليار دولار.

حاجة لبنان لهذه الأموال تعدّ حيوية لتغذية النموذج الاقتصادي. فهذه الأموال تموّل الاستيراد بالعملات الأجنبية، وتموّل عجز الخزينة أيضاً، أي إنها تموّل الاستهلاك العام والخاص في الوقت نفسه، فإذا لم يتمكّن النموذج من استقطاب المزيد من الدولارات لتمويل الاستهلاك بشقيه، فإن مصرف لبنان يستعمل احتياطاته بالعملات الأجنبية كبديل للتمويل.

هذا الأمر يفسّر الأرقام الصادرة عن مصرف لبنان حول موجوداته بالعملات الأجنبية التي تراجعت بقيمة 2.3 مليار دولار بين كانون الأول 2017 وكانون الأول 2018. وكانت هذه الاحتياطات قد بلغت سقفها الأعلى في أيار 2018 وسجّلت 45.3 مليار دولار، إلا أنها منذ ذلك الوقت عادت إلى منحى تراجعي لتبلغ 39.67 مليار دولار في نهاية 2018.

والموجودات الإجمالية بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان تتألف من الاحتياطات بالعملات الأجنبية والأوراق المالية الموظّفة بالعملات الأجنبية. اللافت أن الاحتياطات كانت تبلغ في نهاية كانون الأول 2017 ما قيمته 35.8 مليار دولار، ثم انخفضت إلى 34.64 مليار دولار في أيار، وبلغت 32.5 مليار دولار في نهاية كانون الأول 2018.

أما حركة الأوراق المالية لدى مصرف لبنان، فقد تغيّرت انسجاماً مع التذبذبات في حجم الاحتياطات. كانت تبلغ في كانون الأول 2017 ما قيمته 6.1 مليارات دولار، ثم ارتفعت إلى 10.63 مليارات دولار في أيار 2018، ثم انخفضت إلى 7.1 مليارات دولار في نهاية كانون الأول 2018.

المشكلة أن عجز ميزان المدفوعات يعكس حركة انسحاب الودائع من القطاع المصرفي، ويؤشّر على وجود طلب على الدولار أيضاً. وقد تبيّن أن معدّل نموّ الودائع بلغ 3.63% في نهاية 2018، إذ ارتفعت الودائع بالدولار بقيمة 8.5 مليارات دولار، فيما انخفضت الودائع بالليرة بقيمة 1.9 مليار دولار، أي إن النتيجة الإجمالية زيادة في الودائع بقيمة 6.6 مليارات دولار. ويعود هذا التفاوت إلى وجود تحويلات من الليرة إلى الدولار، أي إن هناك قسماً من المودعين شعر بالقلق على أمواله المودعة بالليرة، وقرّر أن يحوّلها إلى الدولار، ما أدّى إلى رفع نسبة الدولرة في الودائع من 69.83%.

لكن ليست هذه هي الملاحظة الوحيدة على معدل نموّ الودائع. فقد تبيّن أن النموّ في الودائع سواء بالليرة أو بالدولار أقل من معدلات الفائدة المطبقة لدى المصارف التجارية. فبحسب إحصاءات مصرف لبنان، إن معدل الفائدة على الودائع بالليرة بلغ 8.3%، بما فيها الحسابات الجارية والحسابات المجمدة والودائع تحت الطلب. أما معدّل الفائدة على الودائع بالدولار، فقد بلغ 5.16%. وبالاستناد إلى معدلات الفوائد هذه، كان يفترض أن تزيد ودائع المصارف بالليرة بما قيمته 4.3 مليارات دولار، والودائع بالدولار بما قيمته 6.3 مليارات دولار، أي ما مجموعه 10.7 مليارات دولار. لكن الزيادة في الودائع بالعملتين، بلغت 6.6 مليارات دولار، أي أقل بنحو 4.1 مليارات دولار.

ببساطة، هذا يعني أن هناك انسحاب ودائع من لبنان، وأن معدّل نموّ الودائع ليس كافياً لتلبية الطلب المحلي. المودعون يحوّلون أموالهم من الليرة إلى الدولار، وهناك قسم منهم يحوّل ودائعه إلى الخارج، وقيمة هذه الأموال أعلى من الأموال التي تأتي كودائع، ما يشكّل ضغطاً على احتياطات مصرف لبنان ويستنزفها. لا يعني ذلك أن هناك انهياراً في سعر الصرف، ليس على الأقل في المدى المنظور، إذ إن هناك إجراءات أخرى اتخذها مصرف لبنان تجعل الانهيار خارج الحسابات لفترة وجيزة، فهو تمكّن من إطالة عمر الودائع إلى أكثر من 5 أشهر، وامتصّ السيولة بنحو واسع، ما أدّى إلى تجفيف الأسواق منها وخلق حالة جمود تخنق الاستيراد والاستهلاك المحلي، وترفع أسعار الفوائد بوتيرة متسارعة وكبيرة.