IMLebanon

كفرفالوس: نهاية “التغريبة”؟

كتبت آمال خليل في “الاخبار”:

لعقود طويلة، توارث إقطاعيون وأثرياء بلدة كفرفالوس وأراضيها، بما ومن عليها. أقل من 50 بيتاً، في هذه البلدة الواقعة شرقيّ صيدا، لم تزد بيتاً واحداً منذ سنوات طويلة، لعدم قدرة أهلها على التملّك في بلدتهم، ما أدى إلى انتشارهم خارجها. الصفقة الأخيرة لبيع أراضي كفرفالوس للرهبانية المارونية ورجال أعمال، شكّلت بارقة أمل لدى الأهالي بنهاية «التغريبة» التي طالت عقوداً طويلة.

يفرز جريس الشماعي، رئيس بلدية كفرفالوس الأسبق، الملكيات في بلدته، كمن ينثر الأرز في الهواء: «مليون و600 ألف متر مربع للرهبانية المارونية وشركائها. مليونا متر مربع للرئيس سعد الحريري وشركائه. مئتا دونم لنازك الحريري. مليونان لورثة المتمول رياض عازار (…)».

ماذا عن ملكيات أبناء البلدة البالغة مساحتها أكثر من ثمانية كيلومترات؟ يقول نجله خليل الشماعي: «عدد البيوت لا يزيد على خمسين، لا يملك أصحابها سوى مساحة البناء وحواكير صغيرة تحيط بها». أما من يريد من أبناء الجيل الجديد أن يسكن في بلدته، «فلا يملك سوى أن يسكن في منزل آبائه أو أجداده». جريس السبعيني، نفسه، لا يقيم في مسقط رأسه، بل في حيّ خاص بـ «الفالوسيين»، في بلدة عين المير في شرقيّ صيدا. «الفالوسيون» يتوزّعون، أيضاً، على بلدتي العدوسية والنجارية (قضاء الزهراني) وعلى بيروت وضواحيها والمهجر. أكثر من ثلاثة آلاف منهم نقلوا قيودهم إلى حيث يسكنون، فيما لم يبقَ في قيود البلدة سوى نحو 900 شخص. في الانتخابات البلدية عام 1964، بلغ عدد المقترعين 1400، فيما لم يتعدّ في انتخابات 2016 الـ 500 مقترع.

لطالما وقف أبناء كفرفالوس متفرجين على ملكية بلدتهم تنتقل بين الأثرياء. قبل 1952، كانت البلدة جزءاً من أملاك «الست» نظيرة جنبلاط في المنطقة التي كانت ذات غالبية شيعية ودرزية. سيدة المختارة، وآباؤها قبلها، سمحوا لـ«الفالوسيين» بزراعة الأرض مقابل الحصول على حصة من الزيتون والقمح، تحت إشراف وكيل درزي يعيّنه الملّاكون يلقب بـ«الخولي». قلة قليلة من الفلاحين تمكّنت من شراء قطعة أرض بسبب ضيق الأحوال. يروي جريس الشماعي أن الجنبلاطيين القدامى «سجلوا منطقة المشاع للأهالي من طائفة الكاثوليك، فيحق لهم التصرف بها». بعد وفاة «الست نظيرة»، باع الوريث (نجلها) كمال جنبلاط البلدة عام 1952 للمتموّل الصوري النائب عن جزين نقولا سالم الذي اختار بناء مقر زعامته في كفرفالوس لتوسطها بين صيدا وجزين. قصد «الفالوسيون» المختارة «وطلبوا من كمال بيك فصل المشاع، لكنه رفض تجزئة الصفقة وباع البلدة باستثناء جبل ماروس». على إحدى التلال، شيّد «نقولا بيك» قصراً من طبقتين وكنيسة صغيرة، ونقل قيوده إلى سجلات نفوس كفرفالوس. لكنه لم يوافق على تمليك جيرانه لمنازلهم والحقول التي يزرعونها، ولم يعترف بحق الكاثوليك بالمشاع. لتكتمل المصيبة، دمر زلزال عام 1956 معظم منازل البلدة، «فلم يسمح سالم لساكنيها بإعادة بنائها، ولم يعطهم أرضاً بديلة». بنى المتضررون بالتعويضات التي حصلوا عليها من مصلحة التعمير منازل في مناطق أخرى، ورفعوا دعوى على سالم لحفظ حقهم في المشاع، فوضع القضاء عليه إشارة منعت رياض عازار من تملك المشاع عندما اشترى معظم أراضي البلدة من سالم نهاية الستينيات. يسجل الأهالي لعازار موافقته على تمليك الأهالي لمنازلهم والحواكير المحيطة بها «لقاء مبالغ معقولة»، كذلك خصص أحد العقارات لفرزها وبيعها لمن يرغب من الأهالي بأسعار مقبولة.

من البيك إلى الشيخ

عام 1973، انتقلت ملكية كفرفالوس إلى الرئيس رفيق الحريري. احتراق السجلات العقارية في صيدا بفعل الحرب الأهلية «ضيّع الدعوى والإشارة العقارية على المشاع» بحسب الشماعي. بعد سنوات، تمددت مملكة الحريري من المشاع شرقاً حتى حدود كرخا غرباً وصفاريه شمالاً، بعدما اشترى ما بقي من أملاك سالم وجبل ماروس من وليد جنبلاط. وبات «الشيخ رفيق» مالكاً لأكثر من خمسة ملايين متر مربع في مقابل نحو مليوني متر مربع لمنير عازار (وريث رياض عازار) و40 منزلاً صغيراً للأهالي. عام 1978، بدأ الحريري بتشييد منشآت على جزء من المشاع. «اعتقدنا، في البداية، أنه مخيم لتوطين الفلسطينيين»، قال الشماعي. موظفون وعمال من كفرفالوس وبلدات جزين وصيدا وشرقها انخرطوا في تشييد المستشفى وسكن الممرضين والممرضات وكلية التمريض والمدرسة الفندقية ومدرسة صيدون الجديدة وسكن العمال والموظفين. وعند افتتاح المستشفى والكلية والمدرسة، كانت لأبناء المنطقة حصة في التوظيف.

لكن الازدهار الذي أتت به منشآت الحريري إلى المنطقة لم يدم. بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، تمركزت قوات الاحتلال الإسرائيلي في جزين، وتحولت كفرفالوس إلى خط تماس، وحوّل العدو وعملاؤه المنشآت إلى مواقع عسكرية. بعد تحرير جزين عام 1999، لم تعد الحياة إلى المنشآت، وبقيت منذ ذاك مهملة، رغم وعود متكررة أطلقتها أرملة الحريري، نازك، وشقيقته النائبة بهية الحريري بترميمها وإعادة تشغيلها.

قبل عامين، وافق أحد ورثة الحريري، نجله فهد، على بيع «جبل ماروس» لأحد المستثمرين الذي أراد إنشاء كسارة ومقلع فيه. لكن الاحتجاجات البيئية والمذهبية أبطلت الصفقة، فباع فهد حصته لشقيقه الرئيس سعد الحريري ورجل الأعمال علاء الخواجة اللذين أعلنا نيتهما لإنشاء مشروع زراعي فيه. الجدل الذي رافق الصفقتين وحّد جهود الكنيسة وعدد من رجال الأعمال من أبناء منطقة جزين لشراء عقارات الحريري الباقية. رئيس بلدية كفرفالوس بول الشماعي، أوضح لـ«الأخبار» أن الرهبانية اللبنانية المارونية والمتمولين اشتروا عقارات الحريري والمنشآت «بسعر مقبول بلغ نحو 17 مليوناً ونصف مليون دولار، رغبةً من الشيخ فهد في إعادة الأرض إلى أهلها».

كيف تقسمت العقارات على المالكين الجدد؟ «الرهبانية أخذت المستشفى والكلية والمدرسة، فيما تقاسم كل من فادي رومانوس وبشارة حنا وأمل أبو زيد وشارل الحاج وسمير عون ونعمت أفرام العقارات الأخرى». الجزء المهم في الصفقة، برأي الشماعي، «ما ستنوي الرهبانية فعله قريباً جداً عبر ترميم المستشفى والكلية وتشغيلهما بالتعاون مع جامعة الروح القدس – الكسليك ومستشفى سيدة المعونات». أما الجزء الأهم، فهو «ما وعد به أبو زيد بتخصيص عقار من حصته لفرزه وبيعه لأبناء كفرفالوس بأسعار مقبولة». يستبشر الأهالي خيراً بالمستقبل. فإعادة تشغيل المنشآت وتوفير عقارات للأهالي، يعني، أخيراً، إمكان وضع حد لهذه «التغريبة»، ولمّ شمل الـ«دياسبورا الفالوسية»، وتمكين من يرغب من العودة للإقامة في كفرفالوس، وأولهم بول الشماعي الذي لا يملك أرضاً ولا منزلاً في البلدة التي يرأس بلديتها!