IMLebanon

شركات الإسمنت: صناعة الموت بحماية الدولة

كتب ليا القزي في “الاخبار”:

ثلاث شركات تحتكر صناعة الاسمنت في لبنان وتحظى بحماية من الدولة تجعلها أقوى من الرفض الأهلي لـ«مصانع الموت»، وأقوى من المنطق الاقتصادي الذي لا يجد تبريراً لدعم شركات وفرض إجراءات لحمايتها، في وقت يتضح يوماً بعد يوم أن أضرارها الاقتصادية والبيئية والصحية أكبر من فوائدها. وإلا كيف يمكن تبرير أن يصل حجم الدعم لهذه الصناعة الى 200 مليون دولار في السنوات الخمس الماضية، فيما لم نكن لندفع أكثر من 250 مليوناً لاستيراد كل حاجاتنا من الاسمنت، من دون تحمّل اي أضرار صحية وبيئية.

«شِكّاوي يا تين»، كان بائع التين، قديماً، يُنادي أثناء تجوله بين الأحياء. تحديد المصدر كان أساسياً للتأكيد على جودة المُنتج. فبلدة شكا كانت معروفة بزراعة التين. لكن، «اليوم هذه الزراعة ماتت بسبب مصانع الإسمنت»، يقول رئيس جمعية «وصية الأرض» المهندس فارس ناصيف. ومعها «انتهى التنوع البيولوجي، وتلوثت المياه الجوفية لنبع الجرادي الذي يغذي الشمال، وأُصيب الزيتون بمرض عين الطاووس، وقضت المحافر على عددٍ كبير من أشجاره، فيما الأشجار اللوزية تنقرض». إلى القطاع الزراعي الذي لطالما شكّل مورد رزق لعائلات البترون والكورة، يلفت ناصيف إلى أنّ أسعار الأراضي «انخفضت إلى الحدود الدنيا. لم يعد بإمكان الناس أن تبيع أرضها»، فضلاً عن أن التلّوث الذي تتسبّب فيه مقالع الاسمنت ومصانعه، «يؤدي إلى ارتفاع الفاتورة الصحية على الدولة والمواطنين».

أمام هذا الواقع، فإن الأسئلة الأساس هي: هل يُعوّض المردود الاقتصادي – الاجتماعي لهذه «الصناعة الوطنية» التي تحظى بامتيازات حمائية من الدولة الضرر الذي تتسبّب به؟ وما الفائدة من حماية صناعة تبيع بضاعتها للسوق اللبناني بسعر أعلى بكثير من السعر الذي تُصدّر به؟ وما الضير من إلغاء قرار منع الاستيراد إذا كان سيؤدّي إلى انخفاض أسعار الاسمنت في لبنان، وإلى حماية ما تبقى من الثروة الطبيعية؟

ثلاثي الاحتكار

تحتكر سوق الاسمنت في لبنان ثلاث شركات («شركة الترابة الوطنية – اسمنت السبع»، «لافارج هولسيم»، «ترابة سبلين») تحوّلت إلى «دولة» تتمدّد كيفما تشاء وتُحكم سيطرتها على المناطق التي تعمل فيها، من دون أن تفلح اعتراضات المجتمع المحيط بها في إجبارها على إدخال تعديلات على أسلوب عملها. ثلاثي الإسمنت يتحكّم بأسعار السوق، مُستفيداً من قرار صدر عام 1993 بمنع استيراد الإسمنت من دون إجازة مُسبقة من وزارة الصناعة، ومن فرض رسوم جمركية عالية عام 1985 تبلغ 75% على الاستيراد، مع رسم 10% على الاستهلاك الداخلي. أكثر من ذلك، بحسب ناصيف، «استُثنيت مصانع الترابة من الالتزام المفروض على كل الصناعات بألا تتعدّى نسبة البتروكوك (فضلات بترولية جافة تُسبب أضراراً عالية) الـ 1%، وزيدت النسبة المسموحة لها الى 6%». كما سمح للمصانع باستعمال «الديناميت» لتفجير الصخور، ولم يسر عليها قرار وقف أعمال المرامل والكسارات. يدخل كلّ ذلك ضمن إطار «الحماية» الممنوحة للمصانع، والتي لم تتأثر بتغير العهود السياسية.

يُقارن المدير العام لشركة «الدولية للمعلومات» جواد عدره بين أسعار التصدير والسعر في السوق المحلي، للأعوام بين 2013 و2018، ليخلص إلى أنّه «لو أردنا أن نستورد كلّ حاجتنا من الاسمنت من الخارج، ما كنا سندفع أكثر من 250 مليون دولار. في حين أنّنا قدّمنا دعماً لهذه الصناعة، في السنوات الخمس الماضية، وصل الى نحو 200 مليون دولار». وأوضح أنّ هذا الدعم المكلف بيئياً لا يقتصر على حماية الانتاج، «بل أيضاً على عمل المصانع عبر رخص مؤقتة خلافاً للقانون، وعدم التزامها بإعادة تأهيل المقالع وعدم التعدي على الأحراج والأنهر». ولفت الى أن الحماية التي تستفيد منها مصانع الإسمنت، لا تسري، مثلاً، على مزارعي التفاح والبطاطا أو مصانع النبيذ والألبان والأجبان… «وهي صناعات قليلة الأضرار ومتطورة ولديها ميزة نسبياً غير موجودة في بقية البلدان. بلدنا صغير ونُدمره بصناعة غير مُجدية، تُنافسها بلدان أخرى، كالسعودية ومصر، حيث توجد مساحات شاسعة وصحراء، وحيث الأثر البيئي السلبي لإنتاج الاسمنت منخفض جداً». يخلص عدره من ذلك كله إلى أنّ «الفائدة الاقتصادية الوطنية من هذه الصناعة تُصبح سلبية، لذلك الأفضل هو رفع الدعم وفتح المجال أمام الاستيراد، بعد إقفال المقالع». خصوصاً أن شركات الاسمنت «تستخدم ثروات غير قابلة للتجدّد، وستصل إلى مرحلة لا تعود هناك جبال لنهشها. لذلك يجب أن نضع خططاً لخفض هذه الصناعة، وصولاً إلى وقفها نهائياً».

الكلام عن انعدام الفائدة الاقتصادية الوطنية يشمل بُعداً آخر هو انخفاض نسبة اليد العاملة في المصانع. يعني ذلك، بأنّ قصة تأمين هذه الشركات وظائف لأبناء المنطقة التي تعمل فيها لم تعد تنطلي على أحد. بيان للجنة «كفرحزير البيئية»، قبل أيام، أشار إلى أنّ شركات الاسمنت «أنهت خدمات مئات العمال المثبتين منذ بضع سنوات واستبدلتهم بعمال مياومين طمعاً بمزيد من الأرباح». أرقام الضمان الاجتماعي، التي حصلت عليها «الأخبار»، تؤكد وجود مبالغات كبيرة في ما يتعلق بالتوظيف. بحسب أرقام الضمان، يبلغ عدد المضمونين في «الشركة الوطنية» 506 عمّال، و698 عاملاً في «هولسيم»، و426 في «سبلين». في وقت يؤكد روجيه حداد، المدير الإداري لـ«الترابة الوطنية» التي يتركز عملها في شكا وكفرحزير وبدبهون، أنّ شركته «أكبر موظِّف في الشمال. 99% من الموظفين لبنانيون ومن أبناء المنطقة. وهناك بين 3800 و4000 مضمون معنا. ولدينا تقديمات اجتماعية للموظفين أكثر مما يفرض القانون علينا»! فيما تؤكد غريس عازار، المسؤولة الاعلامية في«هولسيم»، إنّ الشركة «قدّمت بين 2015 و2017، ما قيمته 52 مليون دولار امتيازات للموظفين. ونؤمن مباشرة 350 وظيفة، و1000 فرصة عمل غير مباشرة. وندفع لبلديات الهري (المكاتب) وشكا (المصنع) وكفرحزير (المقلع) وكفريا (المقلع والفرن) «1.7 مليار ليرة سنويا. ولدينا مساهمات اجتماعية، من خلال المشاريع التي نقوم بها». هي وسيلتكم لحرف الأنظار عن الضرر الذي تتسببون به؟ تنفي عازار ذلك، «لدينا سياسة واضحة قائمة على التنمية المستدامة».

لا تعتبر «السبع» و«هولسيم» أن الصناعة محميّة من الدولة، ولا ترضيهما كلّ التسهيلات التي تحظى بها الشركات الثلاث، على حساب البيئة والاقتصاد المحلي وصحة الناس. وتعبّران عن الانزعاج من «الشروط» (على قلّتها) المفروضة. يقول ممثلو الشركتين إنّ الدولة تفرض أربعة دولارات على الطن، كرسم إنتاج، و17% ضريبة دخل (وهي الضريبة نفسها التي تدفعها أي شركة في لبنان). بحسب حداد، «هذه نقطة خطيرة، كأنهم يقولون لنا ألا ننتج». وينفي أن يكون «سعر الاسمنت في لبنان الأغلى في المنطقة: «في قبرص سعر الطن 95 دولاراً، وفي الأردن 100دولار (كان 53.5 دولار، وارتفع في آب الماضي بعد وقف الاستيراد)، وفي سوريا 90 دولاراً»، فيما تبيع «السبع» الطن «بعد إضافة الضريبة على القيمة المُضافة، بـ94.35 دولاراً». أما «هولسيم» فتشير الى سعر يراوح «بين 80 و85 دولاراً» (حاولت «الأخبار» التواصل مع المدير العام لـ«سبلين» طلعت اللحام، إلا أنّه لم يجب على الاتصالات). أما الاسمنت المُخصص للتصدير، فيُباع بسعر وسطي اقل بنحو 40 دولاراً للطن عن سعر السوق المحلية.

يبرّر حداد الفارق بين السعر المحلي والمُصدر، بأن «فلسفة التصدير أنّه سوق إضافي، لاستخدامه في تسديد جزء من الكلفة الثابتة في الانتاج. وعلى كلّ، منذ 2013، توقفنا تقريباً عن التصدير، وأصبحنا محاصرين في الداخل. ولم تعد لدينا قدرة على المنافسة مع مصر (سعر الطن 50 دولاراً) وتركيا مثلاً، لأن الغاز فيهما مدعوم واليد العاملة أرخص، كما ساعدهما انهيار العملة». فيما تشير عازار إلى أن «هولسيم» لا تصدّر الإسمنت الأسود «لأنّ السوق المحلي يكفينا. نُصدّر الإسمنت الأبيض فقط إذ لدينا المصنع الوحيد في المنطقة».

يردّ حداد على الدعوات الى وقف هذه الصناعة نهائياً بأن «قطاع الاسمنت في لبنان هو من بين الأفضل في العالم وهو مراقب دولياً، فهل يريدون استيراد بضاعة من الخارج لا نعرف نوعيتها؟». إقفال المقالع هو، أيضاً، «انتحار»، لأنّ وجود المقلع «مرتبط بالمصنع، لا يُمكن أن نعمل بدونه. وإذا لم ننتج الاسمنت، يعني انه لا توجد مواد بناء»، بحسب عازار.

«بإمكانهم الحصول على المواد الأولية من السلسلة الشرقية»، حيث المناطق التي صنّفتها الدولة قابلة لإقامة مقالع وكسارات، يقول رئيس اتحاد بلديات الكورة كريم بو كريم، الذي يُشكّل حالياً «الغطاء» لتحرّك النواب والفعاليات السياسية والمدنية في الكورة ضدّ وجود المقالع. هذه المقالع، يقول بو كريم، «أقفلوها بوجهنا ومنعونا من دخولها، قبل ثلاثة أشهر، بحجة وجود خطر على صحتنا». وهو خوف لا تبديه الشركات على صحة مئات آلاف السكان ممن يعيشون في المناطق التي تعمل فيها.

قال وزير الصناعة وائل أبو فاعور لـ«الأخبار» إنّ صناعة الاسمنت «محمية من أجل تشجيع الصناعة المحلية». واضاف: «نحن مع مبدأ الحماية بالمطلق، لقطاعات الصناعة والزراعة». لماذا الاسمنت بشكل خاص؟ «لأن عدداً كبيراً من العمّال يعتاشون منه، ولكن يجب تعميم ذلك على صناعات أخرى». ولفت أبو فاعور الى أنه، ووزير الاقتصاد منصور بطيش، في صدد إعداد ملف يحدّد الصناعات التي يجب أن تكون محمية، لعرضه على مجلس الوزراء. في المقابل، يعتبر رئيس اتحاد بلديات الكورة كريم بو كريم أنّ «حماية الصناعة الوطنية يجب أن تكون بضوابط من الدولة، تتوافق مع الأسعار العالمية. لو أنّ السوق مفتوح، لكان انخفض سعر المبيع». بكلام آخر، الحماية تتحوّل إلى إجراء إيجابي، في حال لم ينتج عنه احتكار يسمح لقلة بالتحكم بالأسعار، وإذا لم تكن أضراره الاقتصادية – البيئية – الصحية أكبر من فوائده. يختم بوكريم سائلاً: «أين هي المساهمة في النمو من قبل شركات الترابة؟ فيما هي تدفع الضريبة الحد الأدنى».

شركات مدعومة سياسياً

يُحكى الكثير عن دعم سياسي تحظى به شركات الإسمنت الثلاث يؤمّن لها الاستمرارية. الحالة الفاضحة تُمثّلها شركة «سبلين» التي يعدّ النائب السابق وليد جنبلاط من المساهمين الأساسيين فيها. وتعتبر «هولسيم» (النسخة المحلية من «هولسيم» سويسرا) أقدم شركات الترابة في لبنان، وقد تأسست باسم «شركة الترابة اللبنانية» (كان الرئيس كميل شمعون أحد مؤسسيها). المُساهمون البارزون فيها هم: «سيمنت هولدينغ» اللبنانيّة، «هولسيبيل» البلجيكيّة، «بنك مصر لبنان»، البطريركيّة المارونيّة، وعدد من المساهمين الأفراد. في 2015، اندمجت «هولسيم» مع «لافارج»، لتتوسع في مجال الإسمنت. وتناول الاعلام الفرنسي، في 2017، قضية تمويل فرع سوريا في «لافارج»، للفصائل المسلحة، كـ«داعش»، من أجل ضمان استمرار عمل مصنعها. أما شركة الترابة الوطنية، أو اسمنت «السبع»، فتتألف من 12 شركة مساهمة لبنانية و53 فردا، أبرزهم أبناء روبير عسيلي والوزير السابق ميشال سليم اده. يرأس مجلس إدارتها بيار ضومط، وهو – للمفارقة – رئيس «جمعية حماية جبل موسى».

يؤكد سياسي شمالي أن «كل القوى السياسية استفادت مادياً» من شركتَي «السبع» و«هولسيم – لافارج»، و«توافقت على توفير الحماية لهما». ولفت الى أن الشركتين «تلعبان دوراً انتخابياً فعّالاً، وتُمولان الجمعيات البيئية والأهلية، وتدعمان من يؤمّن مصلحتهما في الانتخابات البلدية، وكان دورهما كبيراً في دعم النائب الراحل فؤاد غصن على حساب النائب الراحل عبدالله سعادة الذي خاض حرباً ضدّهما».

استخدام العمّال «دروعاً بشرية»

إحدى الوسائل «القذرة» التي تستخدمها شركات الترابة لـ«الدفاع» عن وجودها هي بناء «سور حماية» حولها من العاملين لديها. فمقابل «الشارع» الذي يعتصم احتجاجاً على وجود المقالع والكسارات، خلقت الشركات في الكورة «شارعاً» مقابلاً مؤلّفاً من عمال المصانع. هؤلاء بمعظمهم أرباب عائلات، ينتمون إلى طبقة الفئات الضعيفة، وجُلّ همّهم أن لا ينقطع مورد رزقهم، في دولة تُريد أن تُحمّل نتائج سياستها الاقتصادية المُدمرة للفئات المتوسطة والمُهمشة. تُدرك شركات الإسمنت حاجة جزء من الناس إليها، فتمتهن توظيف الأمر لصالحها. قبل أيام، قطع موظفو «السبع» أوتوستراد طرابلس – بيروت بالاتجاهين، رفضاً لقرار وزارة البيئة إقفال المقالع والكسارات. فما كان من لجنة «كفرحزير البيئية» أن أصدرت بياناً أكدت فيه أنّ «العمّال خط أحمر. أصحاب مصانع إسمنت شكا والهري يتحملون كامل المسؤولية عن أي تعطيل للعمال بسبب المقالع غير القانونية والمخالفة، وتشريد آلاف العمال من أهل الكورة بعد تدمير مورد حياتهم». إضافةً إلى «إخفاء قيمة الأرباح الفاحشة التي تُحققها مصانع الإسمنت من تعب العمّال. وإخفاء حقيقة أنّ صناعة الاسمنت هي من أخطر المهن تلويثاً وضرراً في العالم».