IMLebanon

هل يستعد “الحزب” للحرب أم يخشاها؟

كتب سعد كيوان في صحيفة “العربي الجديد”:

إنها ربما المرة الأولى التي يشعر فيها حزب الله بالإرباك في تعاطيه مع التطورات الإقليمية والدولية، ويظهر الأمر جليا في أدائه، وفي خطابات أمينه العام، حسن نصرالله، في الفترة الأخيرة. كان فائض القوة الناتج عن ترسانة الأسلحة التي يملكها الحزب يترجم اعتدادا بالنفس، وثقةً عاليةً بقدراته على اجتراح المعجزات، واسترسالا في استعمال لغة التحدّي. أما نصرالله فكان يترجم فائض القوة يقينياتٍ على المستويات كافة، تعينه عليها قوة شخصيته وقدرته الخطابية على تعبئة جمهوره الشيعي الذي عوّده أن يطل عليه بوتيرة شبه أسبوعية نبرتها عالية، وملؤها تعبئة وشحن نفوس ومعنويات وعنفوان وتحدّ مع جرعة غيبيات! وكانت لغة الحرب والشحن والتحدّي وخوض المعارك السلاح الأمضى في سياسة حزب الله، وسلوكياته، وفي أداء نصرالله، وقدرته على التحشيد السياسي والشعبي.

أما اليوم فقد انحسرت المعارك والمجابهات العسكرية التي خاضها، أو أقحم نفسه فيها، وخفت الصوت، وانخفضت النبرة، سواء في مواجهة إسرائيل المتوقفة منذ 2006، أو في سورية التي تورّط حزب الله، فيها وكان الثمن باهظا تخطى ألفي قتيل، ثم اضطراره إلى جرجرة أطرافه وسحب معظم عناصر مليشياه، تاركا القوات الإيرانية وكتائب الأسد، تحت رحمة الطيران الإسرائيلي الذي يعربد في الفضاء السوري. وفي العراق، لم يعد هناك من حاجةٍ لخدماته بعد أن قام بالدور “الحشد الشعبي”، إلا أن التطور اللافت هو رئيس حكومة العراق بالذات، عادل عبد المهدي، الذي يعمل على إقامة توازن بين إيران والسعودية، غير أن المثير والأمضى من انتفاء الدور هو انقلاب “الشيطان الأكبر” على الاتفاق النووي، وعودته بقوة إلى سلاح العقوبات والحصار الاقتصادي والنفطي والمالي. انسحبت واشنطن عمليا من المواجهة العسكرية المباشرة تاركة الساحة في سورية لموسكو وتل أبيب، للقيام في النهاية بالدور نفسه، فقد أعلن دونالد ترامب، منذ دخوله البيت الأبيض، أن هدفه ليس إسقاط بشار الأسد، وإنما تحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة. بدأت هذه الخطة تؤتي ثمارها مع مضاعفة الضغط، وازدياد الحصار، مع بدء العقوبات الإضافية التي تلغي كل الإعفاءات التي كان ترامب قد منحها لثماني دول بمتابعة استيراد النفط الإيراني، ما سيؤدي، من حيث المبدأ، إلى هبوط تصدير طهران النفط إلى درجة الصفر.

“يتقدم ترامب مثل “البلدوزر” وسط الميدان ببرودة أعصاب رجل الأعمال” الصعيد الدولي، فيما راح الحصار النفطي ينعكس بدوره على النظام السوري الذي يعاني اليوم من شح في البنزين والمحروقات والكهرباء، وبعض السلع الغذائية، ودفع الناس تقف طوابير أمام محطات الوقود. لقد صوب ترامب “على الرأس” ليصيب، في الوقت عينه، الجسم والأطراف، حاصر إيران لإخضاعها، وبالتالي تباعا تركيع سورية وحزب الله. فهذا نصرالله يخرج إلى العلن، منذ أكثر من شهر، معترفا أول مرة بضرر العقوبات والحصار المالي على حزبه وقواعده، وداعيا إلى التقشف، وإلى العودة إلى حملة التبرعات، كما في بدايات انطلاقته في 1985. وراحت تتوالى فصولا أخبار تحول المعاشات إلى نصف المعاشات وعصر النفقات، وبدء تسريح المجندين غير المتفرغين، وإخلاء مئات الشقق المستأجرة هنا وهناك على امتداد مساحة الأراضي اللبنانية، وغيرها من الإجراءات.

في المقابل راح حزب الله يخفف من حدة خطابه على الصعيد الداخلي، ومن الحملة التي شنها قبل أشهر على الفساد التي كادت أن تؤجج التوتر مع الطرف السني الذي يمثله، بشكل أساسي، رئيس الحكومة سعد الحريري. وقام بخطوة غير مسبوقة تجاه خصمه السياسي اللدود، القوات اللبنانية، الذي يجلس معه اليوم في الحكومة وينسقان في بعض الملفات، بأن اتخذ قرارا بتجميد أحد نوابه عن النشاط البرلماني، وعن الظهور الإعلامي، لأنه تعرّض، في إحدى الجلسات النيابية، بكلام غير لائق لأحد نواب “القوات”.

يريد نصرالله أن يتحصّن بالداخل اللبناني، ليجعل منه الحضن الدافئ والملجأ الآمن، تحسبا لتقلبات الخارج ومضاعفاته، علما أنه ينعم اليوم بغطاء كبير ورفيع يجسّده وجود حليفه الجنرال ميشال عون في رئاسة الجمهورية، وأكثرية نيابية تشكل ضمانة لمنع عزله أو حشره في الزاوية، وكان عمل المستحيل لمنع تشكيل حكومةٍ تحظى فيها أكثرية لقوى 14 آذار السابقة! وكانت لافتة مسارعة الحزب، قبل أيام، إلى طمأنة اللبنانيين بأن لا حرب في المنطقة، وحرص على تأكيد أن موسم السياحة سيكون واعدا (!).

وكانت صحيفة قد نقلت، قبل نحو أسبوع، عن مصادر في حزب الله التي رجّحت أن حربا ستقع في الصيف المقبل، خيارا وحيدا للرد على حصار ترامب الخانق على إيران. وأفادت تلك المصادر بأن نصرالله نفسه قال، أمام كوادر في الحزب، أن الحرب ستكون قاسية، وأنه هو نفسه “سيقتل” مع بعض القياديين في الحزب، ما

“صوب ترامب “على الرأس” ليصيب، في الوقت عينه، الجسم والأطراف، حاصر إيران لإخضاعها، وبالتالي تباعا تركيع سورية وحزب الله” أثار هلعا لدى لبنانيين كثيرين عاشوا مآسي حرب تموز 2006 التي سقط فيها نحو 1300 شخص، وخلفت دمارا هائلا في ضاحية بيروت معقل الحزب، وفي الجنوب، ونزوح عشرات الآلاف من أهالي الجنوب. وسارع الحزب، ونصرالله شخصيا، إلى نفي صحة هذه المعلومات، علما أنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها تسريب معلومات أو تداولها من مصادر قريبة من حزب الله عن سيناريوهات حرب محتملة، ويتم فيما بعد نفيها، فتكرار التسريب هذا، ثم النفي، يحتملان أكثر من تفسير، أولها أن حزب الله يخشى فعلا وقوع حربٍ قد تمتد وتتوسع، وسط جبهاتٍ مفتوحة، لا خاصرة له فيها تحميه، وأنه ربما تحول إلى لقمة سائغة لإسرائيل في لبنان وسورية معا، فيما إيران تشد أزره من على بعد آلاف الكيلومترات.

أما التفسير الآخر فهو أن إيران تخطط فعليا لدفع حزب الله إلى خوض غمار معركةٍ تحاول تهيئة الأجواء لها عبر جس نبض الشارع والرأي العام، ومن أجل شد عصب جمهوره، ودفعه إلى الالتفاف حول قيادته. وفي كلا الحالتين، يبدو الإرباك ظاهرا لدى قيادة حزب الله، يعزّزه تردّي الوضع الاقتصادي وانعكاسه على أحوال الناس وفساد الطبقة السياسية، وعجزها عن تقديم حلول ناجعة للخروج من النفق، وحزب الله بات جزءا من هذه السلطة.

لكل هذه الأسباب وغيرها، يتقدم ترامب مثل “البلدوزر” وسط الميدان، وببرودة أعصاب رجل الأعمال مصوبا على الأعناق. حمل السلاح والانخراط في القتال أو الدعوة له، والتعبئة من أجله لمواجهة العدو، حقيقيا كان أو وهميا لا فرق، يلهب حماسة الجمهور، وينعش توقه إلى الاستبسال والشهادة (بحسب مفردات الخطاب الديني الأيديولوجي)، ولكن العقوبات والحصار المالي يصيب منه مقتلا، فهو يشلّه ويسيطر على كينونته، ويعزله عمّن حوله، ويسقط الخطاب البروباغندا التعبوي.. ففي أي حالة يعيش نصرالله؟ التعبئة استعدادا للحرب، أم الخشية منها ومن تداعياتها؟