IMLebanon

ورقات من إنجيل ومن تاريخ

كتبت هدى شديد في “النهار”:

لن يقرأ أحد اليوم إلا في كتاب مار نصرالله بطرس صفير. بطريرك الموارنة وسائر المشرق لربع قرن طوى مع آخر صفحات عامه التاسع والتسعين كتاب حياة ستبقى الأجيال المقبلة تقرأ فيه مجد لبنان في أعقد وأصعب حقبة عرفها اللبنانيون عموماً والمسيحيون خصوصاً.

فعلاً مجد لبنان أُعطي لمن ولد مع ولادة لبنان الكبير عام 1920 ولمن عايش ازدهاره وحروبه والاحتلال والوصاية، وصولاً الى انتفاضة الاستقلال الذي يسجل له انه هو من اطلق شرارتها في بيان مجلس المطارنة الموارنة في العام 2000.

رحل البطريرك صفير في آخر ثلاثة ايّام من عامه التاسع والتسعين، والرمزية في حياته تبدو منطلقة من عالم الارقام التي اذا ما تعمّقنا فيها نجد انها احاطت حياته بحلف وثيق ولكل منها روايتها: نصف قرن من الخدمة الأسقفية وربعها بطريركاً، وحياة لا تنتهي من الحكمة والعبر.

من بداية مشواره الكهنوتي امين سر في مطرانية الموارنة في دمشق وصولاً الى انكفائه ناسكاً بطريركياً في بكركي، سار الحياة خطوة خطوة ونسج خطابه كلمة كلمة، بقي لكل منها وقعها على قلّتها، على كل حقبة عايشها وانطبع فيها.

أتعب الكبار ممن خاصموه، ولم يلحق يوماً بمن حالفوه. كان يقول كلمته ويمشي، وكان الآخرون يستدركون ولو متأخرين ويلحقون به. استطاع ان يكرّس دوره ودور بكركي بوصلة في رسم اتجاهات الأحداث، والمفارقة ان كل التداعيات التي يعيشها لبنان في المرحلة الاخيرة فرض عليه الزمن ان يكون شاهداً صامتاً عليها.

فخر لنا اننا عايشناه في احلك الظروف وكان لنا منارة سلام وامان وامل. كم عجزنا عن ان نحصل منه على موقف او تصريح لحدث سياسي آني، وكانت إجاباته تأتي دائماً مستهلّة بعبارته الشهيرة “قولكم هيك؟”، في محاولة لكسب بعض الثواني وإعداد جواب مبكّل ومدروس. وكلنا يتذكر عبارته الاخرى “لقد قلنا ما قلناه”، مقتبساً من تعاليم إنجيل سيده المسيح “ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا”.

ولم أنسَ يوماً عندما قلت له مرة، لماذا تشعرنا دائماً بأن علينا انتزاع الكلمة منك انتزاعاً، ولماذا تبخل علينا بأكثر من جملة جواباً عن سؤال مهما طال؟ ضحك ثم قال: “من يتكلم كثيراً يخطئ كثيراً والأيام تعلِّمنا حكمة الصمت”.

البطريرك الذي ولد حاملاً اسم نصرالله وعاش حياته مقلاً في الكلام وبالغاً في الأفعال، رحل بصمت يشبهه تاركاً وراءه مآثر حياة لن تنتهي برحيله الجسدي لأنه صنع من لبنان قضية وروحاً. ومع كل ذكر لاسمه سيبقى يتمجّد اسم لبنان.