IMLebanon

هل السيرة الذاتيّة خالية من الكذب؟

كتب ممدوح فرّاج النّابي في صحيفة “العرب” اللندنية:

ذاعت شهرة السيرة الذاتية في الفترة الأخيرة، حتى وُسِمَ هذا العصر بأنه عصر الاعترافات، وهو ما دفع البعض بسبب تبوّؤ السيرة الذاتيّة مركز الصدارة في حقل الأنواع الأدبية، إلى إعلان نهاية الرواية وبداية السيرة الذاتية. فقد اجتاح العالم تسونامي اعترافات لم تقتصر على أدباء وفنانين، بل زاحمهم في البوح والاعتراف سياسيون ورؤساء قدّموا اعترافاتهم على شكل سير ذاتية، كما فعل الرئيس الفرنسي فرنسوان ميتران والأميركي بيل كلينتون، وأيضًا مؤخّرًا ميشيل أوباما.

لكن السؤال مع هذه الكثرة التي وُصف اطّرادها بأنه “تسونامي” وهذا الثراء في الكتابات التي شملت كافة ممثلي أطياف الحياة السياسيّة والأدبيّة والعلميّة، وغيرهم ممّن حقّقوا نجاحات تُذكر في قطاعات مختلفة: هل التزم الجميع بالصدق في كتابة سيرهم الذاتية وفقًا للميثاق (أو العهد) السيرذاتي، أم أنهم جنحوا إلى المبالغة والاستعراض الأدبي، وتشويه التاريخ الشخصي وتصفية الحسابات؟

السيرة والكذب

من الأهمية بمكان القول بأن السيرة الذاتيّة الخالصة التي عُرِّفتْ بأنها “شكل أدبي يكشف حياة المؤلف الحقيقية من دون الأقنعة الواقية لاستعمال فكرة الخيال كما في القصة والرواية”، غير متحقّقة وفقًا لحدود المفهوم الذي صاغه فيليب لوجون، وأكّده جورج ماي، على مستوى النتاجات الغربية، ذائعة الصّيت كما في اعترافات القديس أوغسطينوس، واعترافات جان جاك روسو. وكذلك العربية على الرغم من ادّعاء الكثيرين بقول الصدق وتحرّي الحقيقية فيما يكتبون!

على الرغم من أن العديد من النقاد اتّخذ هاتين السيرتيْن نموذجًا دالاً لكتابة السيرة الذاتية الخالصة؛ لتمثلهما الصدق العاري والبوح والتجرد، إلا أن الحقيقة غير ذلك تمامًا، فمع ما أظهره القديس أوغسطينوس من صراحة نادرة في اعترافاته الجنسيّة، حتى غدت سيرته أشبه بطقس اعتراف وفقًا للتقاليد المسيحيّة، إلا أنه أغفل الكثير من الحقائق عن ذاته، وهو ما يعني أن السيرة اعتمدت على الكذب والخداع، وهو ضدّ الميثاق أو العهد السيري للسّيرة الذاتيّة، فكما يقول أبوبكر العيادي إن أوغسطينوس “لم يأتِ في اعترافاته على ذكر أعماله الخسيسة، كطرد ابنه ذي الإثني عشر ربيعًا حينما كان مدرسًا بميلانو، وتركه نهبًا للخصاصة إلى أن وافته المنيّة، دون أن يحضر جنازته؛ أو معاشرته نساء كثيرات في قرطاج خلّفن له عدة أبناء أنكرهم، وادّعى أنه ‘إنما فعل ذلك ليثبت فحولته’؛ أو من قبيل نكثه بالعهد الذي قطعه على أمه باصطحابها إلى روما، ثمّ تركها وحيدة في قرطاج بلا سقف يؤويها وسافر ليقابل أسياده الرومان، فقد كان هدفه الأوّل الحصول على منصب سياسيّ في روما بشهادة بعض تلاميذه في ميلانو. والأخطر من ذلك سكوته عن دوره في تحريض الرومان على الفتك بالدوناتيين”، والموقف الأخير يكشف عن تعصبه ورفضه للآخر.

الشيء نفسه فعله روسو حين أغفل بعض الأشياء عن ذاته، فكلاهما انتقيا من حياتهما الشخصية ما يرسم صورة ترضي الأنا في المقام الأوّل، إلا أنها صورة تُنافي الحقيقة بالطبع. وإن كان القديس أوغسطنيوس تعلّل بأنه في كتابته كان متعجلاً لملاقاة رحاب دين ربّه، فقد تعلّل روسو بالذاكّرة وما يعتريها من ثقوب.

ولنعترف مبدئيًّا بأن هذه الانتقائية التي مارستها الذاكّرة كانت سببًا رئيسيًا فيما بعد للبحث عن بديل يسمح بمثل هذه التجاوزات والإغفالات، ومن ثم كانت رواية السيرة الذاتية أو السيرة الذاتية الروائية الحل الأمثل لتفادي مثل هذه الإشكاليات التي واجهت السيرة الذاتية وجعلتها في مرمي النيران واتهامها بالكشف غير اللائق والمنحط لخفايا النفس وعن الخيانات غير المُستساغة، وفي بعضها الآخر بممارسة الكذب والخداع، وهو ما جعل هذا النوع كما يقول بن ياغودا “سيّئ الصيت وبمثابة عار على الأنواع الأدبيّة الأخرى”. أو بأنها “تجارة كتب السيرة الذاتية”، على نحو ما وصفها الناقد الأميركي وليام غاس في هجوم شنه على النوع في مجلة هاربرس الأميركية، ووصفها بأنها ملطخة بالخداع والرغبة في الانتقام، أو محاولة تبرير الأخطاء، أو ربما لنصفح ونغفر عن خطايا المؤلفين المذنبين!

الاستعراض الأدبي

حالات تشويه التاريخي الشخصي وممارسة الكذب والخداع أثناء كتابة السيرة الذاتية مرجعها في المقام الأول يعود إلى الرغبة في إحداث التعاطف مع الجمهور، فالكاتب أو صاحب السيرة، بهذه السيرة المزيفة عن ذاته، يسعى إلى مداعبة عواطف الجمهور، واستجلاب الشفقة والتأثير بماضيه والآلام التي عاناها ليصل إلى ما وصل إليه، خاصة عندما لم يعد ممكنًا أن يصنع إنجازًا جديدًا، وإن كان في حقيقة الأمر يعلم جيدًا أن ثمة مسافةً كبيرة بين الشخص المتحدِّث عنه وبين الشخص الحقيقي، وأن هذه المسافة لن تذوب حتى لو ادّعى أيضًا الصدق.

ومن ثم يقع الكاتب في المُفاضلة بين ذكر الخصال والعيوب التي تُناسب مشروعه أو ما يهدف إليه، وهو ما يسمّى بالاستعراض الأدبي، وهو الأمر الذي جعل سيجمون فرويد عندما طلب منه عام 1929 أن يقوم بكتابة سيرته الذاتية لأن يسخر قائلاً “هذا بالطبع اقتراح مستحيل الحدوث”، وبرّر لابن أخيه الذي نقل إليه اقتراح الناشر الأميركي بأن “الاعتراف المعبّر والكامل والأمين عن الحياة يتطلب الكثير من التهوّر الطائش للبوح الفضائحي عن شخصي، فضلاً عن الآخرين من الأسرة والأصدقاء والأعداء. ومن ناحية أخرى، الشيء الذي يجعل كل كتب السيرة الذاتية لا قيمة لها عندي، على أيّ حال، هو الكذب والزيف والخداع وليس عندي رغبة في القيام بهذا!”.

من أبرز النماذج التي مُورس فيها الكذب والخداع أثناء كتابة السيرة الذاتية، ما ذكره ياغودا في كتابه على سبيل المثال، مذكرات بعنوان “الدم يجرى كنهر في أحلامي” وهي واحدة من ثلاثة كتب سيرة لمؤلف أميركي ادّعى كذبا أنه من الهنود الحمر ويدعى “ناسديج”. قدم في المذكرات على نحو ما ذكر ياغودا “كاتولوغًا مزيفًا” ضخمًا ومنوعًا لجميع أنواع المعاناة (طفل مشوه بسبب إدمان أمه الكحول أثناء الحمل، وحياة المهاجرين والتشرد والإيدز) وقد غذت هذه رفضه وكراهيته لحضارة الرجل الأبيض.

حالات الكذب والزيف أو تصفية الحسابات التي مارسها الكُتّاب وهم يجترون ذكريات طفولتهم ومراهقتهم، كثيرة في مدونة السرد العربية.

فعلى سبيل المثال نص محمد شكري “الخبز الحافي” اتهم بأنه يميل إلى المبالغة والكذب، فحسن العشّاب، وهو المعلم المدرسي الأول لشكري، في كتابه “محمد شكري كما عرفتُه: ذكريات صاحب الخبز الحافي ومعلمه العشاب” (دار رؤية القاهرة، 2008)، نفي كون محمد شكري لم يتعلّم القراءة والكتابة إلا في العشرين من عمره حيث أكّد أن شكري “تعلم القراءة والكتابة في سن الحادية عشرة”. وما كان يروّجه من أنه ظل أميًّا حتى سن العشرين، كان من أجل إثارة الانتباه فقط. وعندما كنت أثير معه هذا الموضوع، كان يجيبني بأن 60 بالمئة من الكتب التي تتناول حياة أصحابها تعتمد المبالغة وبعض الكذب من أجل التشويق”.

رفسة من فرس

بعض السّير الذاتيّة أو قريناتها كالمذكرات احتوت على الكثير من المبالغات والزهو بالأنا، وهو ما يجعل المتلقي لا يشعر بالصدق إزاء ما يروى، على نحو ما فعل محمد سلماوي في سيرته «يومًا أو بعض يوم» (دار الكرمة، 2018)، خاصة في حديثه عن نشأته الطبقية، فما جاء في السيرة يخالف ما تعارف عليه الناس، وكأن الكاتب يسعى إلى تجميل الصورة النمطيّة السائدة للطبقة المخمليّة. كما أنّ استعراض التجارب الجنسية جاء مفتقرًا للصدق.

وهناك من الكتابات ما جاء كتصفية حسابات، أو أشبه بــ”رفسة من فرس، تركتْ في الجبين شجًا، وعلمت القلب أنْ يحترس” لو جاز لنا استخدم صورة أمل دنقل في قصيدته الجنوبي، على نحو ما فعل عمرو موسى في مذكراته “كتابيه” (دار الشروق، 2017) حيث اختلق بعض الأشياء غير الحقيقية، منها ما هو متعلق بطعام الرئيس عبدالناصر،حيث ذكر أن الطعام كان يُرسل إليه عبر مندوب يسافر إلى سويسرا للحصول عليه. وهي المعلومة التي ردّ عليها الكثيرون. إضافة إلى ادعائه بأن المستشار السياسي للرئيس مبارك أسامة الباز، لم يحصل على الدكتوراه، وهو الأمر الذي نفته أسرته، وأنكره آخرون ممن عاصروا الباز، أو عملوا برفقته.

كما مرّر أشياء ملفقة حيث أشار إلى أن أغنية المطرب الشعبي شعبان عبد الرحيم “أنا أحب عمرو موسى وأنا أكره إسرائيل”، هي التي طردته من وزارة الخارجية، وهذا غير حقيقي. حيث ثمة أسباب أخرى لا مجال لذكرها هنا، كانت وراء الإبعاد، بعضها متعلق بصراع على نفوذ ومكانة، ومواقع أكبر من تلك التي رسمت.

وبالمثل فعل فاروق حسني في كتابه الصادر مؤخرًا عن دار نهضة مصر بعنوان «فاروق حسنى يتذكر… زمن من الثقافة» (دار نهضة مصر، 2019) وهو عبارة عن حوار طويل أجرته معه الصحفية انتصار الدرديري، فجاءت السيرة أشبه بتصفية معارك خاضها الرجل أثناء فترة توليه وزارة الثقافة أثناء حكم مبارك، التي قضى فيها 23 عامًا وزيرًا، لكنه لم ينسَ خصومه، فجاءته الفرصة لكي يجردهم من دفاعاتهم، حتى أن الكتاب يسبقه تصدير لمحمد سلماوي جاء فيه «إن سجل فاروق حسنى الذي يرصده هذا الكتاب يوضّح كيف خاض المعارك على جميع الجبهات، وكيف تصدّى لهجمات الأعداء كما واجه نيران الأصدقاء». فالرجل يجلس في مقعد المدافع، ويرى المعارضين دائما على خطأ. وهذا في حد ذاته نرجسيّة طاغية.

ومع حالات الاستعراض التي مارسها الكتّاب وهم يجترّون حياتهم ويستعرضون أمجادهم، ثمة نوع آخر من كتابات الذّات، يغزل مؤلفها على جوهر العقيدة، والتحولات التي تصيب الشخصية في رحلة بحثها عن هويتها، وعلاقتها بالعقيدة، والثبات في نهاية الأمر، وهو المبتغى المنشود من هذه الرّحلة بكل خباياها، على نحو ما فعل السياسي والكاتب المغربي الأمازيغي حسن أَوريد في سيرته الروائية “رواءُ مكة” (الصّادرة مؤخرًا عن المركز الثقافي العربي 2019)، والذي يكشف فيها المؤلف في لحظة صدق نادرة عن تذبذبه في العقيدة، وحالة الاغتراب عن الدين، إلى أن مرّ بتجربة مُلهمة قربته من الله، وأعادته إلى الدين من جديد.

تنبع أهمية هذه السيرة الروائية من أنها أشبه برحلة تحوّل على غرار رحلة الغزالي “من الشك إلى الإيمان”، رحلة مخاض أو ولادة جديدة، وإن كان لا يبتعد فيها عن الأسئلة الوجودية الفلسفية، فيبدأ سيرته موضحًا موقفه من الحج، وأداء هذه العبادة التي رفض الكثير من الدعوات التي وجهت إليه من قبل، معتبرًا الذهاب إلى الحج ” مخاطرة”، إلا أنه في الأخير يذهب، وذهابه يضعه في حيرة التساؤل: هل هو حج أم استكشاف؟

وقد تقوده هذه الرحلة الاستكشافية لطقوس وعبادة ووقوف على تجمّع ضخم هائل، مجرد مصالحة مع الإسلام؟ أم هي قطيعة نهائية تأخذ شكل سفر لاستحضار وجه من وجوهه؟ كل هذه الأسئلة تقوده في النهاية إلى أن الحج هجرة، هجرة في الله!

لكن مع هذه الأسئلة الوجودية، وغيرها من مؤثرات فكرية أثرت في تكوينه، وجعلته ناقمًا على الروحانيات والدين، يصحبنا بعد ذلك إلى اليقين الذي رآه هناك، في رحلة مراجعة فكرية، وإنكار لما كان أشبه بالتابو أو المسلّمة التي لا تقبل الزحزحة أو حتى مجرد المساءلة؛ فالغرب هو إمامه، ولا هادي سوى الغرب، ومتع الحياة هي أنيسه، بل ليس هناك دين ينزل من السماء، وإنما هي آهات البشر تتصاعد إلى السماء، ولا إمام سوى العقل كما يقول المعري، ومع هذا التطرف الفكري كما يعتبره هو نفسه، تتبدل نظرته إلى الحياة، خاصة بعد حادثة فَقد أخيه في الطفولة ورحلة البحث عنه التي بدأها في المسجد، فما أن دخل بيت الله، راح يتأمله.

لكنه وفق روايته “فلم أجد إلا الفراغ” وكانت هذه اللحظة حدية، فقد كانت بمثابة “لحظة القطيعة مع كل موروثي” وكأنه يودعه، فلم يشعر بشيء “يملأ هذا المكان، أو يختصه بشيء” لكن بعد فترة تتبدل نظرته، وتتبدل صياغة الأسئلة التي كانت من قبل: إذا كانت السماء لا تسمعنا فلكم هي عبث الحياة؟ وهل نواجه صروفها برفع أبصارنا إلى السماء؟ أفلا نضل إذّاك؟ كل هذا يتغير فيوقن أن الحياة لا يمكن أن تصرف بالعقل وحده، وأن حياة الإنسان لا تخضع لمنطق الربح والخسارة، وإنما ثمة منطق يخضع بالأساس لأشياء غير مرئية، لأشياء تعزّ على العقل.

كان لهذا التوجه الذي سار عليه المؤلف في رحلته أثره الواضح، إذا اتخذ أبوزيد المقرئ الإدريسي من هذه السيرة نموذجًا، استند عليه في توصيل رسالة أيديولوجية ذات صبغة دينية، وهو يلقي درسًا بين مجموعه خاصة من أصدقائه، وهو ما ساعد على رواج النص. فما أن طرح عليه سؤالاً: حدثنا عن روَاء مكة؟ راح يثني على شخصية حسن أوريد، وثقافته ووصفه بأنه يتحدث خمس لغات، يجيد ثلاثة منها أفضل من أهلها، حتى أنه وصفه بأنه “أكبر مثقفي المجموعة التي درس معها”، فهو فيلسوف وأديب وروائي وشاعر ويكتب الشعر بالعربيّة والفرنسيّة.

فقد استغلّ المقرئ الإدريسي السيرة لترويج فكر معين يعتنقه، مع أن صاحب السيرة يروي دون تكلف أو حتى يتخذ منها وسيلة للعودة إلى الأضواء أو التقرُّب إلى جماعة بعينها، وإنما يقدّم مراجعة فكرية مجردة عن أيّ أغراض، وهو شيء محمود ومطلوب. لكن ذهبت السيرة إلى منحى آخر أقرب إلى الترويج التجاري والدعاية الساذجة إلى الدين!، فكما يقول المقرئ الإدريسي حسب الكتاب “سيكون للدعاة زادًا” بل يذهب مذهبًا بعيدًا حيث يراه أنه يمكن به مخاطبة الجامعيين والمتشككين وكذلك الرد على المستشرقين والماركسيين والمغرضين… إلخ.

لا نُغالي إذا قلنا إنّ معظم سير السياسيين والفنانين، وبعضًا من سير الكُتّاب والمفكرين، هي التي يغلب عليها التحريف والتشويه بكثرة الحكايات المُلفقة، وقد يكون السبب وراء هذا يرجع إلى التنصّل من التاريخ الشخصي القديم بعدما وصلوا إلى ما وصلوا إليه معوّلين على عنصر النسيان. لكن الشيء الغائب عنهم أن ثمة شهودًا آخرين يسجلون ويروون الحقيقة من وجهة نظرهم هم أيضًا، والتي لا تتطابق مع ما قالوه وسجلّوه في سيرهم.