IMLebanon

“وليد بك” في “خطبته العرفانية”: ادفنوا موتاكم واتبعوني

كتب علي الأمين في صحيفة “نداء الوطن”:

يتقدم رئيس “الاشتراكي” وليد جنبلاط المشهد، ومسيرة كان أخلى جانباً من موقع القيادة فيها لنجله النائب تيمور. فمنذ قرر أن يخلي المقعد النيابي في الشوف خلال الانتخابات الأخيرة، كان (وليد بك) يخطو خطوة عملية وسياسية في برنامج تسليم مقاليد الزعامة، تلك التي باغتته هو قبل اثنين وأربعين عاماً، يوم هوى الزعيم كمال جنبلاط شهيداً برصاص الاغتيال، لكن ما لبث نجله الشاب (وليد بك) آنذاك أن وقف بهامة أبيه، ليكمل طريقاً عاد وسار عليه وشقّ بمفرده اتجاهات اختلف الكثيرون معها وحولها، ليس لارتكاب أو إنجاز قام به فحسب، بل لأن وليد جنبلاط الوارث لزعامة، اضاف اليها من شخصيته، من فرادة والتباس، في الثوابت والتحولات، في المزاج الخاص، وفي الميل الثقافي والفكري الذي ميّزه عن أقرانه من السياسيين اللبنانيين، فجعل منه طيلة أربعة عقود، النموذج الأكثر حضوراً ورسوخاً في الوعي العام في لبنان وخارج هذا الوطن، النموذج للشخصية السياسية اللبنانية.

لبنانية وليد جنبلاط ليست اختياراً، هي قدر سياسي يحكم وجود هذه الزعامة الدرزية والجنبلاطية التي تمتد جذورها في أصل فكرة الكيان اللبناني، فزعامة الموحدين الدروز ووجودهم السياسي لم تكتمل هويتهما العربية والاسلامية، من خارج هذه اللبنانية التي كانوا أساس تبلورها في دولة لبنان الكبير قبل مئة عام.

استنهاض همم الموحدين 

في احتفال تربوي لمؤسسة العرفان التوحيدية، الذي رعاه وليد جنبلاط امس الأول (السبت) بدا جنبلاط في كلمته أمام الحشد، مستنهضاً لهمم الموحدين، لم يقل كلاماً سياسياً مباشراً لكن الشعر اسعفه في ما تضمنه من رموز وعبارات وايحاءات، لقول الكثير في السياسة، لا بل من الاستنهاض لروح المواجهة التي بدا وليد جنبلاط وكأنه يخوض المواجهة الفصل في مسار زعامته وربما الدروز ولبنان.

من لامارتين في قصيدته الشهيرة “البحيرة” والتي ترجمها نقولا فياض…استهل جنبلاط كلمته في استذكار الراحل الشيخ علي زين الدين والموت والحياة…ولكن وليد بك، رغم ذلك لا يلقي مراسيه:

تجري بنا سفن الأعمار ماخرة/ بحر الوجود ولا نلقي مراسينا

بهذا البيت من الشعر عبّر جنبلاط عن واقع الحياة وتحدي وجوده السياسي بما يمثل، وذهب إلى الجذور من خلال ما استحضره من قيم جماعة “الموحدين” ورموز من مرحلة حصار الجبل وحربها، من دون أن يغيب عن تلك “المصالحة التاريخية” التي كان البطريرك الراحل نصرالله صفير عمادها في الجبل.

وليد جنبلاط كان يخطب من “العرفان” ومتوجهاً الى “العائلة العرفانية المعروفية الكبرى” واستعاد، دور هذه المؤسسة وفتيانها في الذود عن الجبل الى جانب الرفاق في الحزب “التقدمي الاشتراكي”، كما وصف وحرص على تذكيرهم بنشيد الجبل الأسود، منشداً أبياته ومذكراً بما سماه “عهد العرفان”.

لم يسبق لوليد بك أن كان على هذا القدر من استشعار الخطر، الذي رفعه إلى مستوى الخطر الوجودي، في هيئته وفي خطابه ما يتجاوز شعوراً وثقلاً على قامته المنحنية، ربما خبره في محطات عدة خلال الحروب الأهلية، لكنه في ذلك الحين كان زعيم المختارة لمّا يزل في ريعان الشباب، بكل ما في الشباب من حسّ المغامرة ومن الميل إلى إثبات الذات، وعدم تهيب من الخطر، فضلاً عن ذلك، لم يكن (البك) وحيداً كما هو اليوم، ولم يكن العالم العربي أو الاشتراكي كما صارت حالته اليوم، من انفراط وتشتت وتداع، فوليد بك، لم تكن امتداداته السياسية في مفاصل سياسية عربية ودولية، إلا تعبيراً عن سعي وجهد لتعزيز وزن سياسي وتثقيله ولطالما شكل له حصانة وحضوراً، تجاوز وزن وحدود الطائفة الديموغرافي المحدود اذا ما قيس بطموحات ودور الزعامة الجنبلاطية من “الحركة الوطنية اللبنانية” وامتداداتها العربية الى “الإشتراكية الدولية” وامتداداتها الدولية.

حصار وليد جنبلاط كما يتناقل مريدوه ليس حصاراً يستهدفه كزعيم، بل يطاول هذا الدور الذي ميّز جنبلاط عن بقية السياسيين، هو لم يؤسس دوره السياسي ونفوذه على علاقة تبعية فرضت عليه التخلي عن نظام مصالح وطني، بنى علاقات اتسمت بطبيعة تحالفية، لذا لم يكن في منظومة علاقاته الخارجية مغامراً بخصوصية لبنانية كانت دائماً معياراً اساسياً، فرضته طبيعة موقعه السياسي اللبناني وتاريخ الدروز وزعامتهم المشدودة الى هذا الوطن اللبناني، والدولة الوحيدة التي يحظون فيها بموقع خاص، موقع غير متوفر لهم كجماعة في اي دولة اخرى.

بهذا المعنى “اللبنانية” هي هوية وانتماء وقدر جنبلاطي. وجنبلاط قدر درزي، لأنه اسس لمنهج سياسي مستقل الى حدّ بعيد، اي بنى قوة سياسية ودوراً ونفوذاً، بعيداً من التبعية، اي بما يجعل الموحدين يرون في زعامته تعبيراً عن وجودهم، ليست زعامة مسقطة من فوق، أو محكومة لتبعية أيديولوجية أو لدولة محددة أو لنظام ما. تحالف سياسياً مع أطراف عدة ثم خاصمها والعكس صحيح، اقترب كثيراً من هذا الطرف ولكن لم ينأسر لعلاقته به، إذ ليس للجنبلاطية جذر خارجي، هي بذاتها جذر راسخ في خصوصيتها اللبنانية وتوازنات الصيغة اللبنانية التي ظلّ جنبلاط بكل ما يمثل وما يحيط به، مصدراً من مصادر صعودها وحصنها الأقوى.

رسائل إلى الساعين لتحجيمه

في خطبة “العرفان” استعاد جنبلاط في كلمة مختصرة، تاريخ الموحدين، وذكر على طريقته بأن ما يواجهه ويواجههم هو تحدي وجود، وهذه ربما طريقة جنبلاط في توجيه الرسائل، ليس الى حاضنته الدرزية فحسب، بل الى كل من هو خارجها وساعٍ الى تحجيم دوره أو إلغائه، بأن الفصل بين زعامة جنبلاط والدروز عامة هو تقويض للاثنين معاً، من هنا يذهب وليد بك إلى النهاية في مواجهة هذا التحدي، طالما أنّ الخصوصية التي يشير دوماً اليها هي أساس توازنها في جبل لبنان، خصوصية ترتبط بمحطات عدة تبدأ من الاستقلال والتأسيس، وتمر بحرب الجبل، ومحطة المصالحة وصولاً إلى اتفاق الطائف، والاستقلال الثاني في العام 2005.

تجاوز هذه الخصوصية من خلال افتعال توازنات جديدة في الطائفة الدرزية، هو ما يجعل جنبلاط في موقع المعترض على كل السلوك السياسي الذي يتلمس من خلاله محاولات دؤوبة لتحجيمه، وهو مسار لم يتوقف كما يؤكد ناشطون قريبون من جنبلاط منذ أكثر من عقد وتحديداً منذ ايار 2008، وينطوي على خطة ثابتة واستراتيجية لتقويض قلعة المختارة من موقعها الراسخ في المعادلة السياسية.

محاولات الانتظار على ضفة النهر أو “التخلي” وحتى الانحناء لعواصف الممانعة، وحتى محاولات التلاقي التي سعى إليها مع “سماحة السيد” لم تلق آذانا صاغية ومحاولات لم تحقق نتائج مرجوة لجنبلاط، كلها لم تغير من مسار القرار بحصاره وتحجيمه، وصولا إلى إعادة رسم الخريطة الدرزية السياسية بما يشتهي الوصيّ الجديد، وما تقتضيه معادلة السلطة الجديدة في لبنان التي يشكل جنبلاط عائقاً أمام انتقالها إلى مرحلة تتجاوز الصيغة اللبنانية الى صيغة حكم جديدة ومجهولة. وربما كان يعبر جنبلاط عن فشل محاولاته هذه، في ما قاله شعراً في “خطبته العرفانية”:

“قد كنت أرجو ختام العام يجمعنا/ واليوم للدهر لا يرجى تلاقينا”

ينقل مقربون عن جنبلاط أنه ذاهب نحو المواجهة السياسية، لأنه بات على يقين أن مسار القبض على لبنان، يتخذ بعداً خطيراً يهدد هوية لبنان وخصوصيته، هو لا يستند في ما يسميه خطوة دفاعية، عن وجوده وعن لبنان، إلى اي قوة خارجية، ولا الى عقوبات أميركية لا معنى لها، رهانه هذه المرة على القوة الذاتية، وعلى قناعة لديه أن المشروع المقابل، الذي ينفذه الأمين العام لـ “حزب الله” بمعاونة حلفائه في السلطة، لن يكتب له النجاح. يدرك حجم الصعوبات، و”العقلية الانتقامية” التي يدار بها البلد، ويلمس مباشرة حجم العداء الذي يواجهه من خصومه، وهذا كله ما يدفعه إلى الذهاب بإصرار لعدم الاستسلام، فمشكلة جنبلاط بالنسبة لخصومه، أنه لا يقبل بأن يكون تابعاً او مستسلماً، هو مستعد لأن يراعي ويهادن، لكن ما هو معروض عليه هو الاستسلام ولا شيء سواه، وهذا بالنسبة إليه معادل للموت السياسي الذي يدرك أن آثاره أكبر من أن تطاوله هو أو زعامته، بل تطاول كل لبنان.

النجاح في مواجهة هذا المشروع يتطلب قيام جبهة، شروطها غير متوفرة، باختصار، لا يجد جنبلاط على رغم تقارب تمّ أخيراً بينه وبين رئيس الحكومة سعد الحريري، فرصاً لأن يكون الحريري في صلب هذه الجبهة، ولا يبدو أن شروط قيامها متوافرة حتى اليوم، مع أطراف وجهات أخرى ولأسباب مختلفة، لكن ذلك لن يحول، على ما تشير أوساط قريبة من جنبلاط، دون السير ولو وحيداً في معركة يعتبرها معركة بقاء ووجود.

في ختام ” الخطبة العرفانية” قال جنبلاط مستنهضاً الهمم: “إن الثروات مهما علت، لن ترد الأكفان عنا، ادفنوا أمواتكم وانهضوا”.