IMLebanon

“رسالة” بريطانية تخترق السيادة اللبنانية

كتب علي نصار في صحيفة “الأخبار”:

في رسالة وجّهتها إلى المسؤولين عن «برنامجها» في لبنان، «أمرت» وزارة التنمية الدولية البريطانية هؤلاء بالتقيد بقرار «توسيع الحظر» ليشمل «كل» حزب الله. تنقسم الرسالة إلى إطارين: الأول، قانوني – سياسي، يبدأ بالتحذير من أن «عضوية هذه المنظمة (حزب الله) أو دعمها جريمة يعاقب عليها القانون» البريطاني. ويلفت إلى «تمدد نفوذ حزب الله في السنوات الأخيرة في المنطقة» العربية، في محاولة لتبرير «الموقف البريطاني الذي يقضي بأنه لم يعد بالإمكان التفرقة بين جناحي الحزب» العسكري والسياسي، بحيث باتت تهمة الإرهاب تطاولهما معاً.

الإطار الثاني، في الرسالة المؤرخة بتاريخ 29 شباط الماضي، يخاطب الجهات التي «تتعاون» معها وزارة التنمية الدولية البريطانية في لبنان، مثل «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» وبعض «الفرق الشريكة» من الجمعيات والمنظمات المحلية والأجنبية. إذ يعد بـ«تأمين العناية الواجبة لتعزيز برنامج» الوزارة مقابل «ضمان التزام قرار بريطانيا مكافحة تمويل الإرهاب»، ويدخل في تفاصيل تنفيذ القرار ضد «الجناحين».
تفيد الرسالة، بوضوح، بأنّ الوزارة البريطانية ستطبّق القرار ضد حزب الله، من خلال «البرنامج» الذي تنفذه في لبنان، وتنبّه إلى أنها «ستقوم بتركيزٍ واضح» على الحزب. و«يشمل» هذا الجهد العملي، «اجتماع مديري برنامج الوزارة مع الفرق الشريكة لإبلاغهم بالتوجيه المناسب، بهدف ضمان الامتثال من جانبهم للقرار البريطاني ضد الحزب، فضلاً عن إمعان النظر في المخاطر الناتجة من تحويل الأموال إلى حزب الله». وأُرفقت بالرسالة «لائحة الأسئلة التي سيتداول بها مديرو البرنامج مع الفرق» المذكورة.
تكشف هذه الرسالة عن توجهات الديبلوماسية البريطانية ومنظورها الإمبريالي إلى عدد من القضايا الحساسة التي تمسّ بالأمن السياسي المجتمعي والوطني، بل وحتى بمسائل الأمن والتكامل الإقليمي. وهي تؤلف وثيقة مهمة للتعريف ببعض جوانب السياسة البريطانية في لبنان خلال الفترة الراهنة وتحليلها. ويضاعف الظرف الإقليمي – الدولي الراهن من أهمية السياق التحليلي لهذه الوثيقة.
حقوق السيادة والمواطنة في «الميزان البريطاني»
تعتدي الرسالة على السيادة الوطنية. هكذا، من دون قفازات، «تأمر بإطاعة» القانون البريطاني على الأراضي اللبنانية، وكأن المملكة المتحدة لا تزال تتمتع باتفاقيات «الامتيازات الأجنبية» مع السلطنة العثمانية. وقد اتخذت بريطانيا قرارها الذي يتهم «كل» حزب الله بالإرهاب، بعد أقل من عشرة أشهر على الانتخابات النيابية (أيار، 2018). وهو يتحدى، بوقاحة، إرادة جمهور المقاومة الوطنية الذي انتهز ظروف «الديموقراطية الطوائفية» في لبنان، ليُدْخِل في السلطة التشريعية مرشحي المقاومة ضد إسرائيل، من حزب الله ومن أحزاب وشخصيات وطنية متنوعة. وقرار حكومة بريطانيا ضد «كل» حزب الله، اعتداء بـ«القوة الناعمة»على إرادة المواطنين الناخبين، بل اتهام لهم بالإرهاب أو بتأييد الإرهاب.
وقد شُحنت الرسالة بلغة غليظة فيها كثير من الاستعلاء والتسلط السياسي والقانوني والأخلاقي الكولونيالي والإمبريالي. وهي تتوجه إلى «المتعاونين»، زاعمة أن «التركيز على حزب الله» لا أبعد، للإيحاء بأن مشكلة بريطانيا مع الحزب ومن يدعمونه. وهذا المكر الإنكليزي في زرع الفتنة الداخلية، يحطّ من كرامة المواطنين جميعاً، لأنه يوحي بأن اللبنانيين الذين «برأتهم» بريطانيا من تهمة الإرهاب، إنما هم حفنة عملاء أو «مشاريع» عملاء لبريطانيا وإسرائيل.
بديلٌ احتياطيٌ من إسرائيل
تفصح رسالة وزارة التنمية الدولية عن رغبة بريطانيا في أن تكون جزءاً من النقاش اللبناني حول الاستراتيجية الدفاعية ضد إسرائيل. اتهام طليعة المقاومة الوطنية بأنه حزب إرهابي، ليس سهوة ديبلوماسية ولا إشكالية فنية. وتحرك الديبلوماسية البريطانية في لبنان «بهدف ضمان الامتثال للقرار البريطاني المتخذ ضد الحزب»، بحسب النص الحرفي للرسالة، مسألة استراتيجية تتعلق بالأمن الوطني. فالمقاومة الوطنية بفضل التحرير غير المشروط للأراضي المحتلة منذ عام 1978، أسقطت العامل الإسرائيلي نهائياً كعامل داخلي هدد الساحة اللبنانية لعشرات السنين. طبعاً، الدستور المعدل (الطائف، 1989)، وضع الأساس السياسي والقانوني لهذه النهاية. أولاً، حينما عدَّل توازنات النظام الطائفي، ثانياً، لمّا ثبت الاستراتيجية الدفاعية الثنائية القطب أساساً للسياستين الداخلية والخارجية. دون ذلك، ما انتهت الحرب الأهلية المزمنة، وما دخل لبنان في مرحلة تاريخية جديدة. وفي هذا السياق، فإن التحرك البريطاني تعويض عن نقص القوة الإسرائيلية.
الاستراتيجية الدفاعية الوطنية ضد إسرائيل هي، من الناحية العسكرية، استراتيجية ثنائية القطب، تتألف من الجيش والمقاومة. وهذه الثنائية في تكوّن القوى الدفاعية الوطنية، بدأت في أول حرب فلسطين (1948). وقد نصَّ اتفاق رودس مع العدو الصهيوني (1949)، على أن تدابير الهدنة تشمل «القوات النظامية (الجيش) والقوات غير النظامية (المقاومة)». وكل نقاش لبناني، حصراً، في الاستراتيجية الدفاعية يجب أن يحمي الانسجام بين هذين القطبين الدفاعيين الوطنيين ويعززه.
إذاً، ليست مسألة أموال ملكية بريطانية يجب حرمان حزب لبناني إياها. بل إن اتهام الكتلة المركزية في المقاومة الوطنية اللبنانية بالإرهاب، تحريضٌ سياسي وقانوني ومادي للقوى «المحلية» على إعادة فتح الجدل العقيم حول الاستراتيجية الدفاعية. وإجبار كيانات معنوية تعمل في لبنان على قبول هذا الاتهام، و«الامتثال للقرار البريطاني»، تحت التهديد بالمساءلة القانونية، ليس «ترشيداً» لكيفية صرف «المساعدات» الملكية، بل مسار سياسي ـ ديبلوماسي إمبريالي مفتوح، من أجل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
لقد كرّس اتفاق الطائف الانسجام بين قطبي المعادلة الوطنية: الجيش والمقاومة، لأول مرة منذ عام 1949. ويريد البريطانيون، مجدداً، زرع الانقسام داخل هذه المعادلة التي نشأت وتطورت في خضم الصراع اللبناني – الصهيوني، والصراع العربي ـ الصهيوني، خصوصاً، في إطار «معاهدة الأخوة» مع الجمهورية العربية السورية.
هذه الرسالة توجب على الجهات السياسية والرسمية، بما في ذلك القضاء، أن تقرأ في قرار مجلس النواب والحكومة البريطانيين، اتهاماً بالإرهاب لكل المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وليس لحزب الله وحده. رغم أن نص القرار يحصر التهمة بالحزب دون بقية قوى المقاومة. وكذلك، دون الجيش، الضلع الأول في الاستراتيجية الدفاعية الثنائية القطب. ويوجب أيضاً على هذه الجهات حرمان بريطانيا أن تكون طرفاً في مناقشة الاستراتيجية الدفاعية. فهذا حق سيادي حصري، لا يمكن حمايته، من دون النظر إلى القرار البريطاني و«تطبيقاته» في لبنان، إلا باعتباره مشروعاً بريطانياً – أطلسياً لتفكيك الاستراتيجية الدفاعية العسكرية اللبنانية. وهذا مقصد إسرائيلي لا يمارى.