IMLebanon

من بكركي إلى فردان… القِمم الروحية تواجِه “الحِمم” الفتنوية

كتب آلان سركيس في صحيفة “نداء الوطن”:

تُعقد غداً قمّة روحيّة مسيحيّة – إسلاميّة جديدة في دار مشيخة عقل الموحّدين الدروز في فردان بعدما أصبح عقد مثل هكذا قمّة حاجة وطنية بامتياز.

من المعروف أن القمم الروحية تُعقد في المقارّ الدينية للمراجع الروحية في لبنان وأبرزها في بكركي، وهي وإن كانت تتمّ تحت شعار روحي، إلا أنها قمم سياسيّة بامتياز، ولا يُعطى لانعقادها نكهة إلا في زمن التأزّم ووصول الأمور إلى الخطّ الأحمر الذي يُهدّد بالإنفجار.

وعلى رغم أهمية هذه القمم، إلّا أن مفعولها يتفاوت بين قمة وأخرى، إذ إن معظم بياناتها الختاميّة تقتصر على التمنّيات والتنبيه والتحذير، خصوصاً أن سلطة المراجع الدينية تختلف بين المسلمين والمسيحيين، فالمرجعية المسيحية الأولى هي بكركي، وكلمتها لا تزال مسموعة بين الحين والآخر، فيما رجال السياسة عند المسلمين لديهم سلطة أكثر من رجال الدين نظراً إلى تركيبات المرجعيات الإسلاميّة.

ويعود تاريخ انعقاد القمم الروحية في لبنان إلى ما قبل انتهاء الحرب الأهلية حيث عُقدت قمّة في 4 تشرين الثاني العام 1975، في بكركي صباحاً، وفي دار الفتوى بعد الظهر، وصدر عنهما بيان أكد فيه المجتمعون أهمية التلاقي والحوار ورفض التقسيم وضرورة القيام بالإصلاحات واحترام السيادة الوطنية. وبعد انتهاء الحرب استمرّ عقد القمم الروحية، ففي 2 آب 1993 انعقدت في بكركي قمّة روحية أُسّست خلالها “اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي – المسيحي”. وتتابع عقد القمم، ففي 1 آب 2006 أثناء “حرب تموز” انعقدت قمّة في بكركي أكد خلالها المجتمعون الثوابت الوطنية اللبنانية ودانوا العدوان الاسرائيلي. وانعقدت قمّة روحية في قصر بعبدا في حزيران 2008 بدعوة من رئيس الجمهورية آنذاك ميشال سليمان، وكانت القمّة الاولى التي تُعقد خارج مقرّ ديني. كما عُقدت قمم عدّة أثناء فترة الفراغ الرئاسي الأخير، وكانت القمّة الأهم أخيراً تلك التي عقدت في بكركي في 14 كانون الأول 2017 للردّ على إعلان الرئيس الاميركي دونالد ترامب القدس عاصمة لإسرائيل.

ويُطرح اليوم سؤال وهو، لماذا تُعقد القمّة في دار مشيخة العقل وليس في بكركي كما درجت العادة؟

وفي التفاصيل، فقد أوفد شيخ عقل طائفة الموحّدين الدروز الشيخ نعيم حسن موفداً إلى البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي وأعلمه نيّته في الدعوة إلى عقد قمّة روحية في دار الطائفة نظراً إلى الظروف التي تمرّ على الطائفة والبلاد. ورحّب الراعي بالفكرة وأيّدها، وعلمت “نداء الوطن” أن الراعي سيشارك شخصياً في اللقاء لكي يُعطيه زخماً، وسيتم التطرّق إلى كل المواضيع التي تُرهق البلد وسيصدر بيان ختامي يتطرّق الى كل هذه المواضيع.

وسيكون جدول الأعمال حافلاً، إذ إنه بعد حادثة قبرشمون، ووصول الأمور إلى ما يُشبه فتنة مسيحية – درزيّة أولاً، من ثمّ تحوّلها إلى مشروع فتنة درزية – درزية، استشعرت المراجع الروحية الخطر الداهم الذي يضرب البلد، فبادرت بكركي إلى فتح أبوابها لما يشبه مصالحة درزية بين الحزب “التقدمي الاشتراكي” والحزب “الديموقراطي اللبناني”، من ثم أعلنت مشيخة العقل أنه “بدعوة من شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن تستضيف دار طائفة الموحدين الدروز في بيروت القمة الروحية المسيحية – الإسلامية يوم الثلثاء (غداً) عند الساعة الحادية عشرة والنصف قبل الظهر”.

وترى مشيخة العقل أن الحمل بات ثقيلاً جداً وهو لم يعد يقتصر على طائفة واحدة أي الدروز، بل يشمل كل الطوائف، كما أن نيران الفتنة إذا استمرت بالإشتعال فلن تقف عند حدود الجبل بل ستمتدّ الى كل لبنان ولن ترحم أحداً على الإطلاق.

وتطالب مشيخة العقل الجميع بتحمّل مسؤولياتهم لأن اللهيب الدرزي سيحرق أصابع الجميع، وانطلاقاً من حرصها على السلم الأهلي والإستقرار، رأت من الضرورة أن يخرج قادة الطوائف بموقف موحّد والتأكيد على الثوابت الوطنية والدستورية، وضبط كل الخلافات السياسية تحت سقف احترام التنوّع والاستقرار وحفظ السلم الأهلي.

وستأخذ حادثة قبرشمون حيّزاً مهمّاً من النقاشات، وسيتم التركيز على حماية السلم الاهلي وعدم الإنجرار إلى الفتن الطائفية والمذهبية والمناطقية والتأكيد على مصالحة الجبل كركن أساسي من أركان الإستقرار، إذ إنه لا يمكن في العام 2019 القفز فوق تلك المصالحة والعودة إلى لغة العنف والمتاريس.

وستكون الدعوة للاحتكام إلى المؤسسات لأنها الجهة الوحيدة المخوّلة النظر بالقضايا الخلافية، وخصوصاً ما يأخذ طابعاً أمنياً وقضائياً، وعدم ربط الأمور ببعضها بعضاً لضرب المؤسسات وشلّ حركة البلد. وبما أن كل الأمور مرتبطة ببعضها، فإنه سيتم التطرّق إلى مسألة تعطيل عمل الحكومة بينما البلد بأمسّ الحاجة إلى اجتماعات حكوميّة، وهذا الأمر يجب أن يكون بديهياً ولا يخضع للتقلبات السياسية.

ويرى بعض من لم يستسغ فكرة هذه الدعوة، أن هذه القمّة تأتي كجرعة دعم لرئيس الحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط، خصوصاً أن الأخير يعتبر نفسه مستهدفاً ويواجه محاولات العزل والتفرّد به.

لكن الصورة لدى دار المشيخة أوسع بكثير، ولدى الكثير من المشايخ تحذير من تكرار تجارب الماضي، إذ إن محاولة عزل حزب “الكتائب اللبنانية” في بداية الأحداث اللبنانية بعد حادثة بوسطة عين الرمانة أعطت نتائج سلبية، والتفّ المسيحي حول “الكتائب”، وهذا الأمر يتكرّر الآن مع جنبلاط الذي ليس بحاجة إلى اختبار العزل ليعلم الجميع مدى حجمه في اللعبة الداخلية وحتى الخارجية.

وفي قراءة للقمّة، فإنها تعطي نوعاً من هامش الحركة والإلتفاف حول مشيخة العقل كممثل لطائفة الموحّدين الدروز، وأنه لا يستطيع أحد عزل الدروز والانقضاض على دورهم مهما تراجع حجمهم العددي أو ضعف تأثيرهم السياسي، وأن عزل المكوّن الدرزي يعني ضرب الصيغة اللبنانية القائمة على التنوّع الطائفي المُصان بالدستور، والذي لا يخضع لموازين القوى، إذ إن الدستور هو الميزان الوحيد لهذا الامر.

وتأمل مشيخة العقل أن تكون القمّة ناجحة خصوصاً أن الدعوات وُجّهت إلى جميع المرجعيات الروحيّة، والتركيز سيتمّ على المحاور التي تهمّ الوضع اللبناني، إذ إنّ اللحظة السياسية الحالية تحتاج إلى وقفة وطنية بعيدة عن التجييش الطائفي والمذهبي والمناطقي.