IMLebanon

جنبلاط يخوض معركة بقاء ووجود

لم يعرف رئيس الحزب الاشتراكي والزعيم الدرزي وليد جنبلاط في تاريخه السياسي على امتداد ٤٠ عاما وضعا صعبا ومأزوما كالذي يعيشه هذه المرحلة، حتى غدت معركته داخل طائفته، بعد «قتال تراجعي» خاضة في السنوات العشر الأخيرة بدءا من أحداث ٧ أيار التي طرقت أبواب الجبل وأنتجت اتفاق الدوحة، وبعده كان خروج جنبلاط من تحالف ١٤ آذار وسحب العصب السياسي منه.. مرورا بانفجار الحرب في سورية التي لم تصح فيها حسابات ورهانات جنبلاط المنتظر على «ضفة النهر».. وصولا الى التسوية الرئاسية عام ٢٠١٦ التي مشى بها جنبلاط على مضض متكيفا مع واقع جديد أفقده الكثير من امتيازاته وقلص من هامش تأثيره ونفوذه.

شارك جنبلاط في انتخاب الرئيس ميشال عون وفي التسوية، ولكنه لم يصبح شريكا أساسيا فيها ولم يقطف ثمارها.

يشعر منذ سنتين أنه يتعرض لعملية حصار منهجي، وأن هامش المناورة لديه يضيق والخناق السياسي حول عنقه يشتد.

بدأ هذا الشعور يراوده في خلال معركة قانون الانتخاب الجديد الذي لم يستطع مجابهته وكان السبب في اختراق منطقته وتقليص كتلته النيابية التي وصلت الى أدنى مستوياتها (9 نواب) منذ الطائف، بعدما كانت وصلت الى نقطة الذروة مع 18 نائبا.. بعد ذلك حصل تراجع في موقعه الحكومي بعدما اضطر للتخلي عن الوزير الدرزي الثالث، وفوجئ بوزارتين سياسيتين تعنيانه مباشرة تؤولان الى خصومه التيار الوطني الحر (وزارة المهجرين) وطلال ارسلان (شؤون النازحين)، بموافقة وتواطؤ من حليفه الرئيس سعد الحريري.

لم يكد جنبلاط يستوعب الصدمة الحكومية، حتى داهمته انتكاسة داخل طائفته الدرزية ومعقله في الشوف والجبل.

فقد أسفرت حادثة الجاهلية (مداهمة شعبة المعلومات لمقر الوزير السابق وئام وهاب بهدف توقيفه، وحصول إطلاق نار أدى الى مقتل أحد مساعديه محمد أبو دياب) عن نتيجتين سياسيتين: نشوء جبهة سياسية درزية معارضة لجنبلاط نواتها تحالف ارسلان ووهاب، وانكشاف تدخل حزب الله في شؤون الطائفة وتوازناتها الداخلية وانحيازه لمحور ارسلان ـ وهاب وتغيير نمط تعاطيه مع جنبلاط.

وبعدما كان متسامحا معه ومستعدا لتنظيم الخلاف حول سورية متفهما خصوصية وضعه وظروفه، عمد حزب الله الى إعادة النظر في سياسته وعلاقته مع جنبلاط، خصوصا بعدما تطورت الأمور الى اشتباك مباشر انطلقت شرارته من «عين دارة» ووصل الى «مزارع شبعا».

يبقى وليد جنبلاط الزعيم الدرزي من دون منازع ومعه أكثرية لم تقل يوما عن الـ 70% ويمكن أن تصل في وقت الخطر الى 90%.

ولكن تغييرات كثيرة طرأت وأرخت بثقلها على جنبلاط، وأمورا كثيرة أدركها:

٭ أدرك أن تحالفه «العميق» الذي كان قائما مع الرئيس رفيق الحريري لا يمكن أن يستمر وأن يتكرر بذات المستوى والانسجام مع نجله الرئيس سعد الحريري الذي غيرته الظروف والتجارب وقرر المضي قدما في التحرر من حسابات وقيود وأثقال الماضي في محيطه المباشر وفي بيئته وفي تحالفاته ضمن إطار 14 آذار.

٭ أدرك جنبلاط أن واقعا سياسيا جديدا قام في لبنان مع قيام التسوية الرئاسية السياسية عام 2016، وأن مركز القرار صار عند ميشال عون وحسن نصرالله، وأن لعبة السلطة تتركز عند «سعد الحريري ـ جبران باسيل»، وقد شكل تحالف الحريري ـ باسيل الهاجس الأكبر لدى جنبلاط بعدما تأكد من رسوخه واستناده الى تفاهمات ومشاريع وصفقات يخشى أن تمتد مفاعيلها وأن تغطي كل المرحلة المتبقية من العهد وتلامس عتبة رئاسة الجمهورية المقبلة.

٭ أدرك جنبلاط أن الرئيس نبيه بري حليفه التاريخي والدائم لا يستطيع دائما توفير الحماية السياسية الكاملة له، ولم يعد متحكما بقواعد ومفاتيح اللعبة. فمن جهة لا يدخل بري في مواجهة مع شريكيه في الحكم، عون والحريري، من أجل جنبلاط.

ومن جهة ثانية يقف بري عند حد معين في تدخله لدى حزب الله من أجل جنبلاط، وأقصى ما يمكنه القيام به هو دور الوساطة والتهدئة.

ومن جهة ثالثة يجد بري صعوبة في تبرير وتصريف سياسة جنبلاط الثابتة ضد النظام السوري وتحمل عبئها الثقيل.

٭ أدرك جنبلاط أن علاقته مع حزب الله أصابها عطب في عنصري الثقة والتقدير، فالحزب يتعامل مع جنبلاط وفق حجمه الجديد والواقعي، وفي المقابل ينظر جنبلاط الى حزب الله على أنه الطرف الذي يقود وينظم عملية محاصرته وتطويقه سياسيا.

٭ أدرك جنبلاط أن علاقته مع القوات اللبنانية ورئيسها د.سمير جعجع تظل محكومة بتحالف مدروس لا يأخذ مداه الكامل، وأن العلاقة مع سليمان فرنجية محدودة، وأن الرهان على محور معارض داخل الحكومة يجمعه مع جعجع وفرنجية بتشجيع واحتضان من بري ليس رهانا في محله، وأن البديل عنه هو إبقاء خطوط التواصل مع الرئيس ميشال عون قائمة.

٭ أدرك جنبلاط أن ظروف المسرح الإقليمي تغيرت ولم تعد مطمئنة، وأن دوره كعنوان لدروز سورية وفلسطين وليس فقط في لبنان اعتراه الكثير من التآكل وفقدان البريق والوهج. فقد تغيرت السويداء ودروز فلسطين أصبحوا سياسيا في مكان آخر.

٭ أدرك جنبلاط، وهذا الأهم، أن الاختراق الذي تفاداه طويلا وعمل على منع حصوله داخل طائفته وانفجر أخيرا في الشارع، وأن الطائفة الدرزية التي تميزت بتماسكها وتراصها لم تعد كذلك، وأن الصراع السياسي الذي يخوضه قد اتسع وصار يشمل جبهات كثيرة بينها الجبهة الداخلية.

ويجري كل ذلك في الوقت غير المناسب وفي مرحلة قرر جنبلاط أن تكون انتقالية وأن تجري فيها عملية نقل الزعامة الى نجله تيمور، وإذا به يكتشف أن تيمور ليس جاهزا لتسلم زمام القيادة السياسية والحزبية، وليس مجهزا ومعدا لمواجهة أوضاع بالغة الدقة والتعقيد، وليس مزودا بخبرة وتجربة لخوض معارك سياسية صعبة ونارية.

ولأن جنبلاط أدرك كل ذلك، لم يعد أمامه إلا خيار المواجهة واقفا عند خط الدفاع الأخير، بعدما اخترقت جبهته وتهاوت خطوط الدفاع الأولى.. وجد جنبلاط أن ليس هذا أوان تقاعده السياسي واللعب من خلف الستارة، وأنه مضطر لتمديد فترة بقائه على المسرح، وأنه ليس هذا الظرف الملائم لتسليم تيمور مقاليد السلطة والقرار والقيادة.. جنبلاط يخوض معركة بقاء ووجود.

معركة حياة أو موت، وحربا سياسية مفتوحة على إيقاع إقليمي متسارع، وفي ظل تحولات داخلية في الأحجام والأدوار وموازين القوى، ومع طائفة خائفة على حالها وعليه، ومسكونة بهاجس المستقبل والمرحلة».