IMLebanon

دراسة حول المادة 95.. هل يكون الجواب بتفسير جديد؟

كتب المحامي ميشال قليموس في صحيفة “اللواء”:

منذ تاريخ 21/9/1991 وحتى تاريخه، لم تحصل اية سابقة حول مطالبة المجلس النيابي بتفسير للدستور، وهي صلاحية كانت معطاة سابقا ضمن «وثيقة الوفاق الوطني» الى المجلس الدستوري ولكن المجلس النيابي وخلال مناقشته مشروع التعديلات الدستورية قرر حصر صلاحية التفسير من ضمن الصلاحيات المحددة دستوريا للمجلس النيابي.

تبعا لهذا الامر، ورغم وجود ثغرات عديدة في نصوص الدستور اللبناني والتي ادت ولا تزال تؤدي الى حصول ازمات وطنية وسياسية تعرقل مسيرة المؤسسات الدستورية، وخاصة لجهة التوافق على موضوع المهلة المطلوبة دستوريا لتشكيل الحكومة والتي ادت الى شلل حكومي وخاصة خلال ولاية الرئيس السابق العماد ميشال سليمان والرئيس الحالي العماد ميشال عون؛ اضافة الى حصول الفراغ في سدة الرئاسة الجمهورية لفترات طويلة اثرت على الاستقرار الدستوري والوطني والميثاقي في البلاد؛ اضافة الى مواد دستورية اخرى تتعلق بالمهل الدستورية وبعلاقة رئيس الجمهورية بالسلطة التنفيذية والتشريعية؛ رغم كل ذلك، لم يتقدم احد بمطالبة المجلس النيابي بتفسير المواد الدستورية التي تثير ولا تزال تثير ازمات وطنية خطيرة.

فأمام هذا الواقع وبمناسبة صدور قانون الموازنة العامة للعام 2019 ورغم الثغرات الدستورية التي رافقت صدوره وخاصة لجهة عدم تطبيق المادة 87 من الدستور، فان المادة 80 من قانون الموازنة العامة والمتعلقة بتعيين الناجحين في المباريات التي نظمها سابقا مجلس الخدمة المدنية اثارت تحفظا دستوريا من قبل فخامة رئيس الجمهورية الذي لم يشأ رد قانون الموازنة الى المجلس النيابي سندا للمادة 57 من الدستور، ولم يترك القانون دون توقيع طيلة فترة شهر كي يصبح نافذا حكما، بل هو قام بتوقيعه ولجأ الى صلاحياته الدستورية المنصوص عنها ضمن المادة 53 من الدستور وتحديدا الفقرة (10) منها من خلال قراره بارسال رسالة الى المجلس النيابي تضمنت مطالبته للمجلس النيابي ومن خلال رئيسه بتفسير الفقرة (ي) من مقدمة الدستور والفقرة (ب) من المادة 95 منه.

فأمام هذا الأمر ومن الناحية الشكلية الدستورية وقبل مناقشة ناحية الاساس يتوجب علينا طرح الاسئلة التالية:

{ السؤال الاول: هل يحق لرئيس الجمهورية توجيه رسالة الى المجلس النيابي خلال الدورة الاستثنائية للمجلس؟

نصت الفقرة (10) من المادة 53 من الدستور على ما حرفيته:

«10 – «يوجه عندما تقتضي الضرورة رسائل الى مجلس النواب».

لم تتضمن تلك الفقرة اي تحديد للفترة التي يحق فيها لرئيس الجمهورية توجيه تلك الرسائل خاصة وانه وفقا للمادة 49 من الدستور فان رئيس الجمهورية هو :

«رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن ويسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان وسلامة اراضيه وفقا لاحكام الدستور…».

لم يتضمن الدستور اية الية دستورية واضحة وفاعلة لكيفية ممارسة رئيس الجمهورية لهذا الدور وخاصة عندما يشعر برأيه بانه توجد ممارسة غامضة او خاطئة لاحكام الدستور من شأنها التأثير على وحدة الوطن خاصة وان رئيس الجمهورية بعد التعديل الدستوري في 21/9/1990 اصبح يمارس دور الحكم اذ انه لم يعد جزءا من السلطة التنفيذية التي اصبحت وسندا لاحكام المادة 17 من الدستور مناطة بمجلس الوزراء.

من هنا وتبعا لكون الفقرة (10) من الدستور اعطت رئيس الجمهورية صلاحية توجيه الرسائل الى المجلس النيابي عند الضرورة.

وتبعا لعدم وجود اي تحديد صريح للفقرة (10) المذكورة لجهة ضرورة توجيهها خلال الدورة العادية للمجلس النيابي.

وتبعا لكون حالة الضرورة التي تكلمت عنها الفقرة المذكورة يحدد مفهومها رئيس الجمهورية منفردا وهي تعني ان سببها يكون في اي وقت يرى فيه رئيس الجمهورية انه من واجبه ومن حقه الدستوري توجيه الرسالة الى المجلس النيابي.

لذلك,

يكون من حق رئيس الجمهورية توجيه الرسائل الى المجلس النيابي سواء خلال الدورات العادية او الاستثنائية للمجلس.

مع الاشارة هنا الى ان المادة 145 من النظام الداخلي للمجلس النيابي تنص في فقرتها الثالثة بانه عندما يوجه رئيس الجمهورية رسالة الى المجلس النيابي بواسطة رئيس المجلس، فعلى هذا الاخير دعوة المجلس الى الانعقاد خلال ثلاثة ايام لمناقشة مضمون الرسالة لاتخاذ الموقف او الاجراء او القرار المناسب.

السؤال الثاني: هل ان طلب رئيس الجمهورية والمتعلق بتفسير مواد دستورية هو بمثابة صدور قانون دستوري تفسيري جديد؟

وهل يحق للمجلس النيابي اقرار هذا التفسير ضمن دورة استثنائية؟

قبل كل شيء، يتوجب وتبعا لما اوردناه آنفا يتوجب دعوة المجلس النيابي للانعقاد ضمن مهلة ثلاثة ايام لمناقشة مضمون الرسالة لاتخاذ الموقف او الاجراء او القرار المناسب.

هنا وتبعا لتلاوة الرسالة الموجهة من قبل فخامة رئيس الجمهورية سوف يتبين للنواب بانها تتضمن طلب تفسير مواد دستورية.

لذلك فان من المتوقع ان يكون اتجاه المجلس وبعد الاستماع الى الرسالة ومناقشة مضمونها، المتوقع ان يصار الى المطالبة بتحديد موعد جلسة ضمن الدورة العادية القادمة للمجلس النيابي لمناقشة طلب التفسير والتصويت عليه خاصة وان رئيس الجمهورية لم يطلب التعديل بل طلب التفسير وبالتالي فان اي نص تفسيري يكون عندها بمثابة قانون دستوري يستوجب نصاب الثلثين لانعقاد الجلسة للبت به وهو يخضع لغالبية ثلثي الاعضاء الذين يشكلون مجلس النواب لاقراره خاصة وان تعديل الدستور يحصل ضمن الدورات العادية للمجلس النيابي وبالتالي فان القانون التفسيري الذي سوف يصوت عليه المجلس النيابي بناء لطلب رئيس الجمهورية سوف يكون بمثابة قانون دستوري جديد يكون خاضعا للاصول والمهل الدستورية الواردة في المواد 76 و77 و78 من الدستور خاصة وان رئيس الجمهورية احتفظ بحقوقه كافة ضمن رسالته بخصوص التفسير الذي سوف يعطيه للمجلس النيابي ومن بينها لجوئه الى استعمال صلاحياته المحددة في المادة 19 من الدستور لجهة مراجعة المجلس النيابي.

وبالتالي فان السؤال الاضافي هو: هل يمكن التصويت على طلب التفسير بموجب قانون عادي وباكثرية عادية وضمن الدورة الاستثنائية؟

الجواب هو كلا لان تفسير الدستور هو بمثابة التصويت على نص دستوري جديد يكون خاضعا للاصول الدستورية المنصوص عنها في المواد 76 و77 و78 من الدستور ولكن الاشكال الدستوري الذي سوف يحصل سوف يكون عندما لا يتوصل المجلس النيابي الى اقرار اي تفسير بغالبية 3/2 اعضائه وبنصاب الثلثين من الاعضاء!

هنا وتبعا لحساسية الموضوع المطروح من قبل فخامة رئيس الجمهورية وتبعا لكونه يتعلق بموضوع الوفاق الوطني وميثاق العيش المشترك فان اللجوء الى الدعوة من قبل رئيس الجمهورية لعقد طاولة حوار وطني تكون الوسيلة الفضلى ولكن ذلك لديه محاذير اخرى اذ ان كل فريق وطني سوف يطرح عندها هواجسه الدستورية وبالتالي سوف نكون  عندها امام واقع مؤتمر تأسيسي جديد لا احد يعلم نتائجه ومفاعيله.

ثالثا: في حال رغب المجلس النيابي في اقرار تفسير دستوري للفقرة (ي) من مقدمة الدستور والفقرة (ب) من المادة 95 منه، ما هو الموقف الوطني السليم حيال هذا الامر؟

تنص الفقرة (ب) من المادة 95 من الدستور على ما حرفيته:

«وفي المرحلة الانتقالية»

أ – تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة.

ب – تلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والامنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقا لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الاولى منها وفي ما يعادل الفئة الاولى فيها وتكون الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص اية وظيفة لاية طائفة مع التقيد بمبدأ الاختصاص والكفاءة».

كما تنص الفقرة (ي) من مقدمة الدستور على ما حرفيته :

«ي – لا شرعية لاي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك».

فانطلاقا من هذين النصين الدستوريين.

وتبعا للغموض الذي يكتنف تفسير الفقرة (ب) من المادة 95 من الدستور وفي ظل التناقض الذي ترافق مع مضمون المادة 80 من قانون الموازنة العامة للعام 2019 فاننا ندلي بما يلي :

لقد استوحى المشترع اللبناني مضمون الفقرة (ي) من مقدمة الدستور من المادة 16 من اعلان حقوق الانسان سنة 1789 غداة الثورة الفرنسية التي نصت على ما يلي:

«كل مجتمع لا تتحقق فيه الضمانات القانونية ولا مبدأ فصل السلطات لا يعتبر ان له قانون دستوري».

وان هذا المبدأ مستوحى من المفكر الفرنسي Montesquieu في كتابه “L’esprit des lois” وهو مؤلف كان له التأثير الكبير على المبادئ والقوانين التي تأسست عليها الثورة الفرنسية يومها.

وبالتالي وبعد انتهاء الحروب الداخلية في لبنان واقرار وثيقة الوفاق الوطني تم التأكيد على الفقرة (ي) في مقدمة الدستور لتأمين المحافظة على الوحدة الوطنية بعدما برزت دعوات عديدة للتقسيم والتجزئة مما استدعت التشديد على ميثاق العيش المشترك بشكل متوازن مع اقرار مبدأ الغاء الطائفية على مراحل.

من هنا فان الاضرار بميثاق العيش المشترك يؤدي حكما الى نشوء هواجس الخوف والقلق والتناقض في الرؤية الوطنية لدى الشعب اللبناني الامر الذي يعرض الكيان للخطر وبالتالي اتت مقدمة الدستور لتؤكد الفقرة (أ) منها على نهائية الوطن اللبناني وبان لبنان هو وطن لجميع ابنائه وليس لفئة منهم لا بل لتؤكد ايضا في الفقرة (ط) منها على عدم الفرز بين الشعب اللبناني وعلى عدم التجزئة والتقسيم.

لقد شكلت المطالبة بالغاء الطائفية السياسية خوفا كبيرا لدى الطوائف المسيحية وخاصة في المرحلة التي تلت اتفاق الطائف سنة 1990 في ظل تراجع دور وصلاحيات رئيس الجمهورية ضمن احكام الدستور وهو الامر الذي لفت نظر سماحة الامام محمد شمس الدين الذي وضع سنة 2002 قبل وفاته كتاب «الوصايا حيث اورد في الصفحات 52 و 53 و54 منه على ما حرفيته:

«يتبين لي ان الغاء الطائفية السياسية في لبنان، ان الغاء نظام الطائفية السياسية في لبنان، يحمل مغامرة كبرى قد تهدد مصير لبنان، او على الاقل ستهدد استقرار لبنان، وقد تخلق ظروفا للاستقواء بالخارج من هنا ومن هناك، ولتدخل القوى الاجنبية من هنا ومن هناك».

«ولذلك فانني اوصي الشيعة اللبنانيين بوجه خاص، واتمنى واوصي جميع اللبنانيين مسلمين ومسيحيين ان يرفعوا من العمل السياسي، من الفكر السياسي، مشروع الغاء الطائفية السياسية، لا بمعنى ان يحرم البحث فيه والسعي اليه، ولكن هو من المهمات المستقبلية البعيدة، قد يحتاج الى عشرات السنين لينضح بحسب نضج تطور الاجتماع اللبناني وتطورات المحيط العربي بلبنان».

وهنا لا بد من التذكير وللامانة التاريخية بان الرئيس الراحل الياس الهراوي كان قد وجه بتاريخ 19/3/1998 كتابا الى رئيس المجلس النيابي الاستاذ نبيه بري يتضمن المطالبة بتشكيل «الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية» علما بان الرئيس الراحل الياس الهراوي صرح خلال انعقاد جلسة مجلس الوزراء بتاريخ 18/3/1998 بان الهدف هو الغاء الطائفية كلها وليس الطائفية السياسية فحسب.

ولقد ورد في كتاب الرئيس الهراوي الى رئيس المجلس النيابي يومها ما حرفيته:

«…واستكمالا لتطبيق الاصلاحات السياسية الواردة في وثيقة الوفاق الوطني ولا سيما البند (ز) وهو بعنوان «الغاء الطائفية السياسية»

«فانني اتوجه الى مجلسكم الكريم للحث على الشروع في تشكيل «الهيئة الوطنية» عملا بمضمون هذا البند، ومهمتها دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بالغاء الطائفية وتقديمها الى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية».

«ان البناء الوطني يحتاج الى عمل دائم ومستمر وانني اتطلع الى الغاء الطائفية من جذورها حتى نستأهل اسباب التناحرات المذهبية المتلاحقة في مجتمعنا وعلى ارضنا بمقدار صوننا لحرية المعتقدات الروحية وحمايتها على قاعدة الدين لله والوطن للجميع».

«اسأل الله ان يوفقنا جميعا من اجل صالح لبنان».

(لطفا مراجعة مؤلف: الياس الهراوي – عودة الجمهورية من الدويلات الى الدولة – صفحة 580).

ويضيف الرئيس الهراوي في الصفحة 589 من مؤلفه المذكور اعلاه بان الغاء الطائفية بشكل مجتزأ هو امر يخيف البعض وخصوصا المسيحيين ما دام لا يرتكز على رؤية وخطة شاملتين تستهدفان القضاء فعلا على كل اشكال الطائفية سواء في النصوص ام في النفوس وفي كل اوجه الحياة السياسية اليومية».

(الصفحة 589 من المؤلف).

ونفس الامر نادى به ايضا الكاردينال الراحل البطريرك مار نصرالله بطرس صفير.

كما اورد الوزير السابق الدكتور خالد قباني في دراسة له ما حرفيته: «…ومجلس النواب لا يستطيع ان يتولى هذا الدور، اي دور تفسير الدستور، لان هذا التفسير لا بد ان يرتدي طابعا سياسيا، نظرا للمصالح السياسية، والمواقع السياسية التي يتوزع عليها النواب، بدليل ان المجلس الدستوري تجنب البحث في بعض المسائل الدستورية التي اختلف حول تفسيرها مؤخرا وبقيت دون حل، خشية من انفجار الخلاف تحت قبة البرلمان حول مسائل ذات حساسية مفرطة وتوازنات دقيقة، علما ان المجالس النيابية السابقة كانت تلجأ الى الاستعانة ببعض علماء القانون الدستوري المرموقين في فرنسا لتفسير بعض نصوص الدستور (المجلس الدستوري 1997-2000 دراسة مقارنة مطولة حول التجربة الجزائرية والتجربة اللبنانية في الرقابة على دستورية القوانين، ص 327).

قبل استشهاده نادى الرئيس الشهيد رفيق الحريري «بوقف العد» ليؤكد على التوازن في الشأن الوطني بين المسيحيين والمسلمين، وهكذا اكد الرئيس نبيه بري عندما استمهل السير سنة 2009 بموضوع الغاء الطائفية السياسية علما هنا بان الرئيس الراحل الياس الهراوي طالب بانشاء وتكوين الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية ولكن التحفظات التي رافقت هذه المبادرة ادت يومها الى صرف النظر عنها.

وخلال الجلسة الاخيرة لهيئة الحوار الوطني المنعقدة في قصر بعبدا في شهر ايار سنة 2014 قبل انتهاء ولاية الرئيس الاسبق العماد ميشال سليمان، اكد الرئيس نبيه بري باسم المسلمين على ضرورة المحافظة على المناصفة تأكيدا منه على صيغة وميثاق العيش المشترك ومقتضيات الوفاق الوطني.

وبالمقابل فان الفقيه الدستوري اللبناني الراحل الدكتور ادمون رباط كان يقول :

Jamais de ma vie je n’ai entendu parler de suppression du confessionalisme en politique, mais toujours de laicisation à tous les niveaux dans l’etat

لقد استند العديد من المفكرين والزعماء السياسيين المسيحيين الى هذا الفكر الدستوري بحيث انهم طالبوا بالعلمنة الشاملة او بالدولة المدنية الكاملة وتوحيد قانون الاحوال الشخصية مقابل الغاء الطائفية السياسية ولكن هذه المطالبة لم تصل الى اية نتيجة.

فامام هذا الواقع والذي لا يزال يشكل هاجسا وطنيا صامتا واحيانا اكثر صراحة، وفي ظل عدم البدء حتى تاريخه بخطة تشكيل الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية من قبل المجلس النيابي وفي ظل تراجع الدور المسيحي وخاصة  في تكوين الادارة العامة وهو الامر الذي شكل هاجسا وطنيا مشروعا!

وفي ظل النص الصريح للفقرة (ب) من المادة 95 من الدستور التي تنص على ضرورة اعتماد مبدأ الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة وفقا لمقتضيات الوفاق الوطني وهما شرطان متلازمان بحيث لا يمكن تطبيق الواحد دون الاخر وهو نص تمت اضافته خلال اتفاق الطائف لان النص الاساسي كان خاليا من عبارة: «مقتضيات الوفاق الوطني» مما يعني التلازم الالزامي بين هذين المبدأين.

اي ان المشترع اللبناني اكد وكما ذكرنا آنفا على تطبيق هذا المبدأ الوطني بصورة متوازنة ومتلاصقة مع مبدأ الاختصاص والكفاءة ! وهو امر اكد عليه النائب السابق الاستاذ ادمون رزق واورده النائب البير منصور الذي شارك في مناقشات الطائف اذ اورد في مؤلفه: «الانقلاب على الطائف» صفحة 54 ما حرفيته:

«عند نقاش قاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف العامة المدنية والعسكرية، اثيرت من قبل رئيس حزب الكتائب الدكتور جورج سعادة مسألة عدم اقبال المسيحيين على التطوع في الجيش وقوى الامن. وتخوف من اخلال كبير بالتوازن اذا ما اصبح الجيش وقوى الامن باغلبية عناصرهما من المسلمين قبل ان تكون العصبيات الطائفية قد ازيلت من العلاقات والنفوس، الامر الذي يهدد العيش المشترك والتوازن الداخلي والوفاق الوطني وكل ما يحفظ الكيان اللبناني وبالتالي الحريات العامة فيه».

«لقي تحفظ رئيس حزب الكتائب تجاوبا من قبل المؤتمرين لجهة الحرص على الوفاق الوطني والتوازن الداخلي. خاصة في المرحلة الانتقالية لالغاء الطائفية وقبل ان يرافق الغاءها من النصوص الغاؤها من العلاقات الفعلية والنفوس».

وفي المقابل اجمع المؤتمرون على ان التحفظ هذا يجب ان لا يعيق مبدأ الكفاءة والاختصاص في تولي الوظائف العامة. فتم اعتماد قواعد واسس تحمي الوفاق والتوازن الوطنيين ولا تمس بمبدأي الكفاءة والاختصاص فكان الاتفاق التالي:

1 – حيث يقتضي التعيين في الوظائف العامة مباراة، يؤخذ بنتائج المباراة ايا كانت هذه النتائج من حيث التوزيع الطائفي. فيكون الاختصاص والكفاءة قد غلب في المستويات الهامة من الوظيفة العامة وفي المراكز الادارية الحساسة والفاعلة».

2 – حيث يكتفى للتعيين في الوظيفة العامة بامتحان عادي، اي حيث لا الزام للادارة بالتقيد بترتيب الناجحين وفقا لعلاماتهم وانما لها الحق بالاختيار من بين جميع الناجحين، تراعى مقتضيات الوفاق الوطني بين الناجحين ويعين بالافضلية وبالتساوي الناجحون من المسيحيين والمسلمين حتى استنفاد حاجة الادارة. فان لم تستنفد في اطار التوازن، يستكمل التعيين ولو خارج الاطار الطائفي.

3 – حيث التعيين في الوظيفة العامة استنسابي او يشبه الاستنساب (كالتطوع في الجيش وقوى الامن وتعيين الاجراء والمياومين…) وخاصة في الوظائف العسكرية والامنية، تراعى مقتضيات الوفاق الوطني باعتماد المناصفة والتوزيع النسبي بين الطوائف».

هذا ما اورده النائب البير منصور في مؤلفه المذكور اعلاه.

لذلك فان التفسير الوطني والدستوري لهذا الامر يكون من خلال عدم طغيان طائفة او مذهب على طائفة او مذهب اخر في تكوين الادارة العامة لان من شأن حصول هذا الامر ليس فقط انقاص المسيحيين في الادارة العامة بل الوصول الى تفريغها منهم بصورة فاعلة واساسية مما يؤثر على ميثاق العيش المشترك وهو الامر الذي الزمت الفقرة (ي) من مقدمة الدستور تطبيقه لان هذا الامر سوف يؤدي الى حصول الشرخ الوطني وبالتالي فان الحل العملي الحالي لتطبيق الفقرة (ب) من المادة 95 من الدستور يكون بالابقاء على التوازن بين المسلمين والمسيحيين وكذلك باجراء المباريات في مجلس الخدمة المدنية بصورة متعادلة على اساس مناطقي بين مناطق الشمال والجنوب والبقاع وجبل لبنان وبيروت بحيث تشارك فيها كافة فئات الشعب اللبناني المسجلة قيودها فيها وبالتالي تكون الادارة اللبنانية شاملة لكل المناطق والطوائف والمذاهب ويتأمن العيش المشترك فيها بصورة متوازية مع الواقع السياسي والوطني خاصة وان اللامركزية الادارية توجب توقع هذا الامر على مستوى المناطق.

لذلك,

فان الحكمة الوطنية لدى القادة والمسؤولين تقضي بالتطبيق الوطني المتوازن اذا امكن على صعيد تكوين وتشكيل الوظائف العامة كي تبقى اللحمة الوطنية اساسا للاستقرار ولاستمرار الوطن.

وهنا تحضرني عبارة قالها المفكر الفرنسي باسكال :

Une verité coupée en deux ne fait jamais deux verités mais deux erreurs.

اي ان الحقيقة المقسومة الى قسمين لا تؤدي الى حقيقتين بل الى خطأين.

فلنسعى جميعا وفي سبيل مقتضيات الوفاق الوطني الى تنظيم وتفسير تطبيق الفقرة (ب) من المادة 95 من الدستور على هذا الاساس وعلى اساس احترام ميثاق العيش المشترك وذلك من خلال مبدأ الاختصاص والكفاءة كي يبقى لبنان وطنا نهائيا لجميع ابنائه.