IMLebanon

خطر وجوديّ يتهدّد مهنة الإعلام

كتبت مريم سيف الدين في “نداء الوطن”:

 

حالياً تتقدم المشهد الإعلامي معاناة موظفي تلفزيون المستقبل الذين يقدر عددهم بنحو 320 موظفاً، وانضمت “إذاعة الشرق” إلى هذه المعاناة، فبات مصير استمرار الشقيقتين مجهولاً. وينتظر موظفو الوسيلتين حلول نهاية هذا الشهر لمعرفة ما ينتظرهم. يتوقع موظفو تلفزيون المستقبل إقفالاً نهائياً ويحلمون بقبض كامل رواتبهم. أما موظفو جريدة المستقبل الذين جرى صرفهم بعد إقفال الجريدة في بداية شباط من العام الحالي، فقد توصلوا إلى تسوية برعاية وزير العمل كميل أبو سليمان لقبض مستحقاتهم على عشرين دفعة بعد محاولة القيّمين على الجريدة تأجيل الإستحقاق.

سبقت “المستقبل” إلى الإقفال صحف عدة، صرفت موظفيها وصار هدفهم تحصيل حقوقهم. في 31 كانون الأول 2016 أصدرت السفير عددها الأخير، فانتقل عدد من موظفيها إلى صحيفة الاتحاد التي انطلقت مانحة الأمل باستمرار الصحافة الورقية، قبل أن تبدده بسرعة وتتوقف عن الصدور بتاريخ 28 كانون الأول 2017 بعد 54 عدداً وأقل من ثلاثة أشهر، ما شكل إحباطاً للعاملين في المهنة. وإن تذرّع يومها القيمون على الصحيفتين بالتعثر المالي لإقفالهما، غير أن متابعين كثراً للمسألة أكدوا أن الأزمة لم تكن مالية وأن قرارات مالكي المؤسستين بالإقفال اتخذت لأسباب شخصية. كذلك أقفلت صحيفة “الحياة” اللندنية مكاتبها في بيروت في حزيران من العام 2018، وصرفت نحو مئة موظف. بعدها جاء دور صحيفة الأنوار، فأصدرت عددها الأخير نهاية أيلول 2018، قبل أن يقفل دار الصياد بالكامل ويصرف نحو 80 موظفاً. وأصدرت صحيفة البلد عددها الأخير في حزيران 2018، إثر إضراب من تبقى من موظفيها عن العمل بسبب توقف الجريدة عن دفع مستحقاتهم، ولم يحصل هؤلاء إلى الآن على مستحقاتهم. يقول بعض العاملين في الصحيفة إن الأزمة نتجت عن فساد القيمين عليها.

اليوم تصدر في بيروت 10 صحف، ويُنتظر أن تنضم إليها وافدة جديدة. وليس سرّاً أن بعضها “يعيش من قلة الموت” وكل مدة وأخرى تُسمع في بيروت صرخات استغاثة. ويبدو أن جريدة “النهار” الأطول عمراً تخوض معركة وجود لا بل تعاني من أزمة خانقة. بدأت أزمة “النهار” تتفاقم في العام 2015، في العام 2016 استغنت الصحيفة عن أكثر من 20 موظفاً. لاحق هؤلاء الجريدة قانونياً وتوصّلوا إلى تسوية مع إدارتها للحصول على مستحقات ورواتب حاولت التهرب من دفعها. اعتمدت الجريدة من بعدها سياسة توظيف جديدة إذ لجأت إلى ما يعرف بعقد تقديم الخدمات، ويحرم هذا العقد العاملين في الجريدة من حقوقهم، فلا يسجّل الموظفون في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بالتالي لا يحصلون على تغطية صحية وتعويضات نهاية الخدمة، كما لا يحصلون على إجازات سنوية، على الرغم من أنهم يعملون بدوام ثابت 6 أيام أسبوعياً. لكن الخطط التي اتبعتها “النهار” لم تخرجها من الأزمة. وأطلقت الصحيفة في تشرين الثاني من العام 2018 صرخة عبر إصدار عدد بصفحات بيضاء، بهدف إحداث خبطة “نهارية” وحاولت التعويض عن نسب البيع المتدنية بإصدار أعداد خاصة. وحال بعض العاملين في الجريدة لا يطمئن فمستحقات 20 شهراً أو أكثر لا تزال معلّقة بانتظار فرج على شكل هبة. ينتظر الزملاء توافر المال لقبض مستحقاتهم، ومن يئس جرّب حظه في مؤسسات أخرى ومواقع إلكترونية، إلى الاستدانة من المصارف والأقارب لدفع فواتيرهم ومصاريفهم، ما يضيف عليهم المزيد من الضغط النفسي.

المحطات التلفزيونية ليست أفضل حالاً من الصحف، وإن استمرت في جذب الإعلانات المحلية التي لا تكفي لتغطية كلفة الإنتاجات الكبرى. وقد لجأت الـ “أم تي في” أخيراً إلى تخفيض رواتب موظفيها ( الرواتب العالية) ويشكو بعض المتعاقدين من التأخير في دفع مستحقاتهم …لكن مهما تأخر جايي ( الدفع). وهناك محطات كالـ”أل بي سي آي” تماطل في تسديد ما يتوجب عليها لشركات الإنتاج بعدما توقفت عن الإنتاجات الكبرى. موظفو الـ “أو تي في” يعانون أيضاً، يشكو أحدهم أنه وبعد سنوات من العمل لا يتجاوز راتبه 800 دولار، ما يجعله عاجزاً حتى عن شراء سيارة. وتعمد هذه المؤسسات وغيرها إلى تجنب التوظيف إلا عند الضرورة، فتستعين بكتاب ومعدين وموظفين مستقلين لتزويدها بالمواد الإعلامية. وقد تستمر المؤسسات في التعامل مع نفس الأشخاص لسنوات من دون توظيفهم. بذلك تتهرب المؤسسات من منح الموظفين حقوقهم ودفع التعويضات وبدلات النقل وغيرها، وتتخلص كذلك من الملاحقة القانونية عند الاستغناء عنهم. وتزيد الدعاوى القضائية وملاحقة الصحافيين بتهم القدح والذم بهدف الضغط عليهم، من الأعباء المالية التي تثقل المؤسسات جرّاء كلفة توكيل محامين ودفع غرامات مالية.

إنطلاقاً من هذا الواقع، نفذت نقابة محرري الصحافة اللبنانية ومعها نقابة المصورين الصحافيين ونقابة مخرجي الصحافة ومصممي الغرافيك ظهر أمس اعتصاماً في ساحة الشهداء في بيروت. وغابت نقابة الصحافة عن الاعتصام لأسباب قيل أنها ذات طابع سياسي. أما عدد المشاركين في الاعتصام فكان أقل بكثير من عدد الصحافيين والمصورين والعاملين في القطاع المهدورة حقوقهم. غالبية المعتصمين كانوا من المخضرمين في المهنة، بينما لوحظ شبه غياب للجيل الجديد. وكأنه اعتصام بلون الشّيب يحاول إنعاش مهنة مهددة بالوفاة.

أما نقيب المحررين جوزيف القصيفي، الطامح إلى شحذ همة الاعلاميين لرفع الصوت عالياً ضد الإهمال الرسمي لقطاع الصحافة والإعلام، فوقف وسط المعتصمين وطالب المسؤولين بتحقيق تسعة مطالب وهي: وضع قانون عصري للصحافة والإعلام يستجيب للتحديات الراهنة ويؤسس للمستقبل. دعم قطاع الصحافة والإعلام والعاملين فيه عبر مشروع يموّل من الموازنة العامة. إنشاء صندوقين، تعاضدي وتقاعدي، للصحافيين والإعلاميين والعاملين في وسائل الإعلام كافة، تمول إنطلاقتهما من خزانة الدولة ريثما يصبحان قادرين على الإقلاع. تنسيب جميع المحررين والعاملين في المؤسسات الإعلامية غير المشمولين بخدمات الضمان الى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي فرع المرض والامومة، إلى حين العمل بصندوقي التعاضد والتقاعد. حل مسألة الرسوم البلدية المتراكمة والناتجة من قرارات التريث التي لم يعد يسري عليها مرور الزمن. إعادة ما انتزع من تقديمات تمتع بها الإعلاميون منذ ستينات القرن المنصرم. الطلب من الحكومة الإفراج عن مشروع القانون المتعلق بتعديل أحكام في قانون المطبوعات يتصل بنقابة المحررين، وإرساله الى المجلس النيابي كما ورد من وزارة الاعلام من دون أي حذف أو إضافة، أو تحوير. الطلب من مجلس القضاء الأعلى حث محاكم العمل على الإسراع في بت الدعاوى المرفوعة من زميلات وزملاء صرفوا كيفياً من مؤسساتهم لقاء تعويضات مجحفة. العفو عن جميع مخالفات النشر وجرائم المطبوعات المنصوص عنها في المواد 2 الى 25 من قانون المطبوعات الصادر بالمرسوم الاشتراعي الرقم 104/77 وتعديلاته.

وفي حديث إلى “نداء الوطن” يقدّر القصيفي عدد المتضررين من إقفال المؤسسات الإعلامية بما يتراوح بين 1200 و 1400 شخص، نصفهم من الصحافيين. ولا يرى النقيب في مشروع قانون الإعلام الذي تقدم به وزير الإعلام السابق ملحم رياشي حلاً لأزمة الإعلام وإنما هو جزء من الحل مطالباً بقانون أشمل. ويعتبر القصيفي أنه على المسؤولين ألا يتعاطوا مع الإعلام من منطق حسابي، “فهو قطاع أساسي في لبنان الذي تميز بحرية التعبير ما أغرى رجال الأعمال للاستثمار فيه”. ويرى القصيفي أن الأزمة المالية تتحول الى ذريعة لدى أصحاب المؤسسات لتخفيف مخصصات الموظفين، “أما الهدف اليوم فتوحيد العاملين في القطاع كي يصبح التعاطي معنا جدياً”.

وكان للمدير العام لوزارة الإعلام الدكتور حسان فلحة كلمة في الاعتصام لفت خلالها الى أنه ومنذ إنشاء نقابتي المحررين والصحافة بقانون في العام 1962 تعاقب على نقابة المحررين 5 نقباء فقط في وقت توالى على السلطة 11 رئيساً للجمهورية. وأعلن فلحة أن وزارة الاعلام عملت وتعمل على نصوص قانونية تحفظ حقوق الاعلاميين في عملهم وادائهم.

وبينما تنأى معظم كليات الإعلام بنفسها عن أزمة الإعلام وكأنها غير معنية بها، يعتبر الأستاذ في كلية الاعلام في الجامعة اللبنانية، الدكتور حسين سعد، أننا أمام مأساة، “فأهل الاختصاص في الجامعات غير مهتمين، بل يورطون الأجيال من خلال استحداث فروع ودراسات جديدة ويغضون النظر عن المشكلة الحقيقية: هل تبقى المهنة أم لا؟”. أما المطلوب من كليات الاعلام وفق سعد فهو القيام بدراسات جدية تبحث عن جذور الأزمة وتسعى لبناء شراكة بين الإعلام والمجتمع».

ما كان ينقص العاملين في مهنة البحث عن المتاعب سوى أن تبحث المتاعب عنهم ويصبحون طرائد العوز والضياع والقلق على حقوق اكتسبوها وتكاد تتبخر. واقع حزين أو قدر محتوم أو أزمة مفتوحة. كل الأوصاف «تصح في وصف حالتنا». باتت وسائل التواصل الإجتماعي منابر مجانية للسياسيين يطلقون المواقف عبرها، وأصبح لكل فريق سياسي جيشه الإلكتروني المستعد للشحن وتعبئة الرأي العام والذود عن المواقع، ما خفف اهتمام السياسيين إلى حد كبير بالمؤسسات الإعلامية.