IMLebanon

بيت بيروت: قصَّة مشروع تعثَّر في المرحلة المهمَّة

كتب د. بلال حمد في صحيفة “اللواء”:

قامت إستراتيجية المجلس البلدي الذي كان لي شرف ترؤسه بين العامين 2010 و2016 على وضع مشاريع في مختلف الميادين الإنمائية، نُفذ عدد كبير منها خلال الولاية ووُضع عدد آخر على سكة التنفيذ أو كانت دراساته قيد التحضير عند انتهاء الولاية. غير أن عدداً من المشاريع المهمة التي أنجز مجلسنا عملية التحضير والأبحاث والدراسات المتعلقة بها كما اتخذ القرارات الملزمة لتنفيذها، تعثر تنفيذها لأسباب عديدة.

وأهم أسباب التعثر الإهمال وعدم المتابعة الجدية أو التجاهل والتجميد من قبل الإدارة البلدية في عهد المحافظَيْن الأستاذ ناصيف قالوش والقاضي زياد شبيب، بالإضافة إلى محاولة السلطة التنفيذية تهميش دور المجلس البلدي وفرض الوصاية عليه ومنعه من تحقيق استراتجيته الإنمائية على مختلف الصعد.

ومن الأسباب أيضاً التجاذبات السياسية والمناطقية والطائفية وقوى الأمر الواقع التي كانت تقف سداً منيعاً في وجه بعض المشاريع التي من شأنها أن تعيدَ الألق والإشعاع لعاصمة الوطن، كما من شأنها أن توفر التنظيم والتناسق لبيروت التي تسعى جاهدة لاستعادة دورها ورونقها على شاطئ المتوسط.

مهما يكن من أمر، فإن ما يهمني هو العرض لبعض المشاريع المتعثرة لتبيان أهميتها والنتائج الإيجابية الكبرى التي كان يمكن أن تنعكس على بيروت وأهلها لو تم تنفيذها.

سوف أعرض تباعاً لبعض المشاريع المتعثرة تاركاً للقارئ العزيز الفصل والحكم والإجابة على السؤال البديهي: هل كان سيحصل تأخير أو عرقلة بعض المشاريع المهمة التي بذل مجلسنا جهداً كبيراً ووقتاً ثميناً لتحضيرها ووضع دراساتها لو كان رئيس المجلس رئيساً للسلطة التنفيذية كغيره من رؤساء البلديات اللبنانية؟

قرأت منذ بضعة أيام مقالاً حول مشروع صيانة «بيت بيروت» والتفاوت الكبير في تقديرات الكلفة بين دائرة وأخرى في بلدية بيروت. ولقد دفعني ذلك المقال إلى تذكير المواطنين وخاصة أهلي البيارتة بهذا الصرح الثقافي الذي أراده المجلس البلدي الذي كان لي شرف ترؤسه بين العامين 2010 و 2016 أن يكون مركزاً ثقافياً رائداً.

يعتبر مشروع متحف «بيت بيروت» عند تقاطع طريق الشام مع جادة الرئيس إلياس سركيس من أهم انجازات المجلس البلدي 2010 – 2016، وهو عنوان لتعاون وثيق بين مدينتي بيروت وباريس بدأ منذ العام 2008 خلال ولاية الرئيس عبد المنعم العريس. بعد وضع الحجر الأساس 12/10/2012، أقام مجلسنا إحتفالاً كبيراً في 26/4/2016 بمناسبة إنتهاء أعمال تأهيل المبنى الأصفر وإضافة بناء جديد إليه. يهدف المشروع إلى جعل «بيت بيروت» المركز الثقافي البلدي الأهم في المدينة بحيث يتم تخصيصه لتاريخ المدينة ولحفظ ذاكرتها. ولقد لحظ التصميم المعتمد، ترجمة لرؤية مجلسنا، أن يشمل المشروع قاعات للعروضات الفنية، ومتحفاً لتاريخ وذاكرة بيروت، وقاعة محاضرات، وقاعة إستقبال، ومكتبة سمعية بصرية تجمع كل الكتب والوثائق والدراسات المعمقة عن تاريخ المدينة ورجالاتها وعن تطور المدينة المدني والعمراني والإجتماعي والإقتصادي والثقافي.

وتوازياً مع وضع الدراسات الهندسية وقبل البدء بأعمال الترميم والبناء، ألفّ مجلسنا لجنة تحكيم ضمت بعض أعضاء المجلس وأعضاء لجنة علمية إستشارية تمثل المجتمع المدني اللبناني وممثلين عن بلدية باريس والمعهد الفرنسي اللبناني «IFPO» والإدارة البلدية. وعقدت لجنة التحكيم هذه عدة إجتماعات بهدف إختيار مرشح لوضع المحتوى الثقافي للمشروع الذي يهدف إلى إنشاء هيئة مستقلة مع مدير ثقافي وفريق عمل متخصص وكفؤ لتحديد السياسة العامة للمتحف وهيكليته الإدارية وبرنامجه الثقافي وذلك بالتعاون مع بلدية بيروت. ولقد خلُصت لجنة التحكيم بعد إجراء مقابلات مع ستة مرشحين لوضع البرنامج وبعد دراسة ملفاتهم إلى اختيار الدكتور سامي المصري (شركة ONDA) بالتعاون مع السيدة أوريتا باشا وذلك إستناداً إلى معايير مؤهلات فريق العمل ومنهجية العمل المقترحة. وبناءً على اقتراح لجنة التحكيم، وافق مجلسنا البلدي في القرار رقم 584 تاريخ 18/7/2012 على تكليف الفريق المشار إليه أعلاه إعداد مشروع المحتوى الثقافي بطريقة الإتفاق بالتراضي، وطلب المجلس في قراره من المحافظ بالتكليف الأستاذ ناصيف قالوش تحضير العقد تمهيداً لإقراره من قبل المجلس البلدي. ولقد استند المجلس في قراره إلى أحكام المرسوم رقم 14969 تاريخ 30/12/1963 (قانون المحاسبة العمومية) لا سيما المادة 147 التي تجيز عقد الإتفاقات بالتراضي إذا كان المشروع يتعلق باللوازم والأشغال والخدمات الفنية التي لا يمكن أن يُعهد تنفيذها إلا لفنانين أو إختصاصيين أو حرفيين أو صناعيين دلّ الإختبار على اقتدارهم، كما استند إلى المادة 150 التي تجيز التعاقد بالتراضي على مشاريع الخدمات التقنية مهما بلغت قيمتها إذا كانت تتجاوز إمكانيات الإدارة المتعاقدة. ولقد تجاهل المحافظ قالوش القرار البلدي أعلاه ووضعه في أدراجه حتى إنهاء تكليفه مهام محافظ بيروت أوائل أيار من العام 2014، أي بعد حوالى سنتين من إصدار القرار البلدي 584/2012 على الرغم من مراجعاتنا المتكررة. وعند استلام المحافظ القاضي زياد شبيب مهامه، عقد رئيس المجلس ونائبه عدة إجتماعات معه لشرح أهمية مشروع المحتوى الثقافي وضرورة تنفيذ قرار المجلس.

وكانت الشكاوى تنهال على المجلس البلدي من الجانب الفرنسي بسبب التأخير في وضع المحتوى الثقافي لبيت بيروت. نذكر في هذا الإطار كتاب رئيسة بلدية باريس آن هيدالغو الموجه إلى رئيس المجلس البلدي بتاريخ 28/10/2014 الذي أشادت فيه بتقدم أعمال البناء والتأهيل ولكنها شكت التأخر في برمجة المحتوى الثقافي وخصوصاً عدم توقيع العقد مع شركة. «ONDA» ونذكر أيضاً كتاب سعادة السفير الفرنسي باتريس باؤلي الموجه إلى رئيس المجلس بتاريخ 15/11/2014 والذي أشار فيه بوضوح إلى ضرورة وضع المحتوى الثقافي لبيت بيروت. وقد جهد رئيس المجلس وممثلا المجلس في لجنة التحكيم، المهندسان نديم أبو رزق ورشيد أشقر، لإقناع المحافظ شبيب بتحريك الملف وعقد إجتماعات مع الدكتور سامي المصري للإستفسار عن كل تفاصيل المشروع. وبعد معاناة مع التأخير والمماطلة وتنقّل الملف من مستشار لشبيب إلى مستشار آخر، وصلت الأمور إلى حد توقيع الدكتور المصري مسودة عقد بينه وبين الإدارة البلدية ممثلة بالمحافظ شبيب. غير أن شبيب جمد الملف وبدلاً من إيداعه المجلس البلدي لإقراره، أودعه كسلفه قالوش أدراج الإهمال والنسيان. وهكذا تخلى شبيب عن متابعة هذا المشروع الحيوي الذي يعيد لبيروت ولبنان الرونق والدور التاريخي ضارباً بعرض الحائط إرادة المجلس البلدي والمناشدات الفرنسية لتوقيع عقد المحتوى الثقافي لبيت بيروت ومصالح بيروت العاصمة، الأمر الذي أدى إلى إنكفاء الدور الفرنسي إنطلاقاً من واقع أنه اذا كان محافظ المدينة، رئيس السلطة التنفيذية في بلدية بيروت، لا يريد توقيع العقد فإنهم والحال هذه لا يمكنهم أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك. واستمر المحافظ شبيب بتجاهل المشروع حتى انتهاء ولاية المجلس البلدي في أيار 2016 وكأننا به كما نُمي إلينا يأبى أن تُنشأ هيئة مستقلة للإشراف على «بيت بيروت» ومحتواه الثقافي وبرنامج عمله، بل يريد أن تقوم السلطة التنفيذية التي يترأسها المحافظ بالإشراف مباشرة على أعمال «بيت بيروت».

لقد كان مؤسفاً جداً أن يتعثر مشروع المحتوى الثقافي لبلدية بيروت بسبب تجاهل محافظَيْن تعاقبا على السلطة التنفيذية في عهد مجلسنا البلدي وذلك خلافاً لقانون البلديات الذي يلزم المحافظ كرئيس للسلطة التنفيذية في بلدية بيروت «الممتازة» تنفيذ قرارات المجلس البلدي حيث تنص المادة 54 من قانون البلديات «قرارات المجلس البلدي نافذة بحد ذاتها باستثناء القرارات التي أخضعها هذا المرسوم الإشتراعي صراحة لتصديق سلطة الرقابة الإدارية (وزارة الداخلية والبلديات)، فتصبح نافذة بعد تصديقها». وكان مُتوقعاً أن يعمد المجلس البلدي الجديد إلى متابعة هذا المشروع المهم والسعي لدى المحافظ شبيب لإنهاضه من عثرته، غير أننا فوجئنا بقيام المجلس البلدي الجديد باحتفال في «بيت بيروت» بتاريخ 13/4/2017 برعاية رئيس مجلس الوزراء وذلك لافتتاح مكتبة عادية بتجهيزات بدائية. وهذا مخالف للرؤية الثقافية المتطورة التي سعى إليها مجلسنا بالتعاون مع اللجنة العلمية الإستشارية ومدينة باريس. ولقد أتى عمل المجلس الجديد إنتقاصاً من قيمة «بيت بيروت» ومساساً بمكانته الثقافية التي سعى إليها مجلسنا. والمضحك المبكي أن المكتبة التي افتتحها المجلس البلدي أُقفلت بعد بضعة أيام من افتتاحها وعاد هذا الصرح الثقافي إلى سبات عميق وتحول من مركز ثقافي واعد للعاصمة إلى مكان مهجور يأذن فيه المحافظ شبيب ويرعى معارض أعمال فنية تُقام مرة أو مرتين في السنة دون الإستناد إلى قرارات المجلس البلدي.

السؤال الذي نطرحه أمام المواطنين: من المسؤول عن تعثر وعدم تنفيذ عدد كبير من المشاريع التي أعدّها مجلسنا ومنها المحتوى الثقافي لبيت بيروت؟ المسؤول هو قانون البلديات الصادر بالمرسوم الإشتراعي 118 تاريخ 30 حزيران 1977 الذي جعل المحافظ رئيساً للسلطة التنفيذية في بلدية بيروت ورئيساً لكل دوائرها بدلاً من رئيس البلدية المنتخب من المواطنين لإدارة شؤون المدينة الإنمائية وذلك خلافاً لكل البلديات اللبنانية. هو قانون البلديات الذي لم ينص على مهلة محددة للمحافظ لتنفيذ قرارات المجلس البلدي مما جعله يتمتع بالإستنسابية في تقرير التنفيذ أو عدمه مما يكرس هيمنة السلطة المركزية (أي الحكومة) عبر من تعينه محافظاً للمدينة على السلطة البلدية المنتخبة. ومن يحاسب؟