IMLebanon

ملاحظات على رسالة الرئيس عون في شأن “لبنان الكبير”

كتب المحامي الدكتور محمد مغربي في صحيفة “اللواء”:

في 31 آب 2019 وجه الرئيس ميشال عون رسالة الى اللبنانيين أعلن فيها بدء ذكرى مئويــة «اعلان لبنان الكبير» الذي يصادف اول ايلول 2020. وقد قوبلت هذه الرسالة داخلياً ببعض الانتقادات، أو بيانات التأييد، لما تضمنته من وصف «الاحتلال» العثماني لجبل لبنان من العام 1516 الى العام 1918، أي لأكثر من اربعة قرون، وببيان استنكار اصدرته وزارة الخارجية التركية في اول ايلول 2019. ولما كان من المفيد التحقق من دقة الوقائع التاريخية التي تم اعتمادها في الرسالة الرئاسية، فلا بدّ من ابداء الملاحظات التالية.

ما هو «لبنان الكبير» وكيف أنشئ؟

يدور الحديث دائماً، وكما جاء في رسالة الرئيس عون، عن الحدث الذي يؤلفه «اعلان لبنان الكبير في اول ايلول 1920» على لسان الجنرال الفرنسي هنري غورو. وتتمثل ذكرى ما حصل يوم الاول من ايلول 1920، ولا شك انه يوم تاريخي، في الصورة التذكارية للجنرال غورو في قصر الصنوبر محاطاً بجمهرة من الناس منهم البطريرك الماروني ومفتي بيروت.

لكن الحدث الحقيقي هو القرار رقم 318 تاريخ 31 آب 1920 (أي قبل يوم من «الاعلان») الذي اصدره الجنرال غورو، بناءً للصلاحية المعطاة له من الرئيس الفرنسي بالمرسوم المؤرخ في 8/10/1919، وبصفته، أي غورو، المندوب السامي للجمهورية الفرنسية في سوريا وكيليكيا (جنوب تركيا)، ودون أي ذكر في هذا اللقب سوى لسوريا وكيليكيا، والقائد العام لجيش الشرق وجاء فيه (ترجمة حرة من اللغة الفرنسية):

المادة الاولى: انشئ تحت اسم «دولة لبنان الكبير» إقليم (وبالفرنسية: territoire) يتضمن:

(1) الحدود الادارية للبنان الحالي.

(2) اقضية بعلبك، البقاع، راشيا، حاصبيا…

(3) الاجزاء من اراضي ولاية بيروت:

(أ) سنجق صيدا ناقص ما دخل في نطاق فلسطين عملاً بالاتفاقات الدولية.

(ب) سنجق بيروت.

(ج) الجزء من سنجق طرابلس الذي تشمل قضاء عكار الواقع الى الجنوب من النهر الكبير، قضاء طرابلس (بما فيه مديرتي الضنية والمنية) والجزء من قضاء حصن الاكراد الذي يقع الى الجنوب من الحد الشمالي للبنان الكبير كما هو مبين في المادة الثانية من هذا القرار.

المادة الثانية: حددت حدود دولة لبنان الكبير:

شمالاً: بالخط الذي يسلكه النهر الكبير عبر وادي خالد جسر القمر.

شرقاً: بالخط الذي يفصل وادي خالد عن نهر العاصي ويمر بالحدود الشرقية لاقضية بعلبك، البقاع، راشيا وحاصبيا.

جنوباً: بالحدود الفلسطينية التي سوف تعيّن بإتفاقات دولية.

غرباً: بالبحر المتوسط.

 

المادة الثالثة: يدخل هذا القرار حيز التنفيذ يوم الاول من ايلول 1920».

فيكون الاول من ايلول 1920 هو تاريخ بدء مفعول القرار 318 تاريخ 31 آب 1920.

لكن ما انشئ هو اقليم لا دولة اقتطع الجزء الاكبر منه من ولايتي بيروت ودمشق. وعيّن له غورو حاكماً فرنسياً من ضباطه. وكانت ولاية بيروت تمتد شمالاً حتى ولاية حلب وتشمل، إلى جانب سنجق بيروت وسنجق صيدا، سنجق عكار وسنجق نابلس حتى حدود سنجق القدس. وقد بلغت مساحتها ما ينوف عن ثلاثين الف كلم² أي ثلاثة اضعاف مساحة الجمهورية اللبنانية.

لكن الاقليم الذي انشأه غورو بقي، من الناحية القانونية الدولية، جزءاً من الاراضي العثمانية المحتلة واستمر تحت الادارة العسكرية الفرنسية حتى الى ما بعد توقيع معاهدة لوزان في 24 تموز 1923. وهي معاهدة السلام التي دخلتها بريطانيا وفرنسا وايطاليا واليابان واليونان ورومانيا مع تركيا وانهت الحرب العالمية الاولى. وعلى اثر ابرام هذه المعاهدة من الجانب التركي في 23 آب 1923، أُعلنت تركيا جمهورية في 29/10/1923 وأُنهيت الخلافة الاسلامية في 3/3/1924.

وما يهمنا من هذه المعاهدة لاغراض النقاش الحاضر هو انها حددت، في مادتها الثالثة، حدود تركيا، بما فيها حدودها مع سوريا، بما فيها الاقليم الذي انشأه غورو. وتنازلت تركيا بموجب المادة 16 منه عن كل الاقاليم خارج الحدود المذكورة.

أما لجهة الجنسية، فقد جاء في المادة 30 من معاهدة لوزان:

«ان الرعايا الاتراك المقيمين اعتيادياً في الاقاليم التي تم سلخها عن تركيا بموجب احكام هذه المعاهدة سيصبحون تلقائياً، بموجب الشروط التي يحددها القانون الداخلي لكل منها من جنسية الدولة التي نقل اليها كل اقليم».

وقد كان مفهوم الجنسية قد دخل على التعامل الدولي بعد الثورة الفرنسية. وفي العام 1856 صدر عن الحكومة العثمانية، كجزء من التنظيمات، خط همايوني يقضي بالمساواة بين العثمانيين بصرف النظر عن طوائفهم فأصبح المسيحيون صالحين للخدمة في الجيش العثماني. وفي العام 1869 صدر قانون الجنسية العثماني.

وتطبيقاً لمعاهدة لوزان صدر عن المندوب السامي للجمهورية الفرنسية في سوريا القرار رقم 2825 تاريخ 30 آب 1924 الذي جاء في المادة الاولى منه ما يلي:

«المادة 1 ـــــ كل من كان من التابعية التركية مقيماً في اراضي لبنان الكبير في تاريخ 30 آب 1924 اثبت حكماً في التابعية اللبنانية وعدّ من الآن فصاعداً فاقداً التابعية التركية».

وفي 14 كانون الثاني 1925 صدر عن المندوب السامي القرار رقم 15 المتعلق بالتابعية اللبنانية، موجباً، في المادة 13 منه، على السكرتير العام وحاكم لبنان الكبير تنفيذ هذا القرار الذي بدأ العمل به من تاريخ اذاعته في النشرة الرسمية لاعمال المفوضية العليا التي كانت تصدر باللغة الفرنسية فحسب.

وفي 23 أيار 1926 صدر الدستور اللبناني الذي جعل من اقليم لبنان الكبير جمهورية عاصمتها بيروت. ونُشر هذا الدستور في النشرة الرسمية لاعمال المفوضية العليا تاريخ 14 آيار 1931، العدد رقم 11، وهو ذات العدد الذي نشر فيه الدستور السوري الصادر في 14 آيار 1930 والذي نص في مادته الاولى على الوحدة السورية.

 

عن الجنرال غورو

وبالعودة الى الجنرال هنري غورو، وقبل ان يقود القوة الفرنسية التي نزلت في بيروت في العام 1919، فانه كان في العام 1907 مندوباً فرنسياً سامياً في موريتانيا وشن حملة عسكرية على القبائل البدوية في تلك البلاد. ثم نقل الى المغرب حيث تولى في العام 1911 قيادة قوة الاحتلال الفرنسي في فاس، ثم قوات الاحتلال الفرنسية في غرب المغرب من العام1914 الى العام 1915. ثم عيّن في أول حزيران 1915 قائداً للقوات الفرنسية في الحملة التي شنتها بريطانيا وحلفاؤها آنذاك ومنهم فرنسا وروسيا على مضيق الداردنيل التركي سعياً لاقتحام بحر مرمرة منه والوصول الى اسطنبول، وقد بلغ عديد القوات الغازية نحو نصف مليون جندي تصدى له نحو ثلاثمائة الف جندي عثماني. ودارت تلك المعارك نحو سنة وانتهت بهزيمة الحلفاء وانسحابهم بعد ان تكبدوا نحو ثلاثمائة الف اصابة وخسروا عشرات القطع البحرية. ولمع نجم القائد العثماني الجنرال مصطفى كمال الذي تولى قيادة احد الفيالق العثمانية على تلك الجبهة اما الجنرال غورو فقد تم اجلاؤه عن مسرح المعركة بعد ان اصيب بقنبلة مدفعية ضمن نطاق عمل قوات الجنرال مصطفى كمال ففقد غورو احدى ساعديه واحدى رجليه. لكن ذلك لم يمنعه بعد انتهاء علاجه من تولي قيادة في الجيش الفرنسي في اوروبا في ما تبقى من الحرب العالمية الاولى. أما مصطفى كمال فتولى قيادة عسكرية انشأها بمعزل عن الجيش العثماني وتمكنت في ايلول 1923 من دحر جيش الاحتلال اليوناني الذي فرت جموعه من البوابة التي دخلت منها وهي مدينة إزمير، وتلى ذلك جلاء سائر الجيوش الاجنبية عن التراب التركي، بما فيها مدينة اسطنبول، تزامناً مع تنفيذ معاهدة لوزان.

وعندما وصل غورو الى بيروت كان فيصل ابن الحسين قد أقام حكومة عربية في دمشق حيث تم تنصيبه ملكاً على سوريا دون ان يكون على علم بوجود اتفاق سايكس ـــــ بيكو. فتحيّن غورو الفرص للانقضاض على دمشق.

وكان فيصل، الذي دخل الى دمشق كجزء من القوات البريطانية، قد اقام علاقة حسنة مع الزعيم الصهيوني حايم وايزمن وتبادل الرسائل معه، وعقد اتفاقاً مع رئيس الوزراء الفرنسي كليمنصو بأن يقبل بالحماية الفرنسية لسوريا. لكن الجمعية الوطنية السورية المنتخبة رفضت اتفاق فيصل ـــــ كليمنصو وتخلى البريطانيون عنه التزاماً منهم بتطبيق سايكس ـــــ بيكو. فوجه غورو انذاراً الى الملك فيصل بالخروج من سوريا وحل الحكومة العربية ثم زحف جيشه على دمشق في 24 آب 1920 واشتبك في ميسلون مع القوات العربية بقيادة وزير الدفاع يوسف العظمة وهزمها وسقط العظمة في تلك المعركة التاريخية شهيداً. ودخل الجيش الفرنسي دمشق بعد ان انسحب منها فيصل واركانه بإتجاه فلسطين التي كان يحتلها البريطانيون. وهذا هو الجو الذي انشئ فيه اقليم لبنان الكبير.

وما لبث غورو ان دخل دمشق مترئساً جيش الاحتلال الفرنسي وتوجه الى ضريح صلاح الدين الايوبي وخاطبه قائلاً: ها قد عدنا يا صلاح الدين. إذ كان غورو يعتبر نفسه من القادة الصليبيين.

وعلينا الا ننسى المقاومة الوطنية التي نشأت في وجه الاحتلال الفرنسي ومن اهم وجوهها التاريخية المناضل العاملي ادهم خنجر الذي حاول في العام 1921 اغتيال الجنرال غورو بالهجوم على سيارته المتنقلة بين دمشق والقنطرة فنجا غورو وقتل بعض ضباطه. وبعد حوالي اكثر من سنة تم اعدام ادهم خنجر بعد ان قبض عليه وهو في حماية سلطان باشا الاطرش وكان ذلك من اسباب الثورة التي قادها هذا الاخير على الفرنسيين والتي تم قمعها بقوة السلاح وبقصف دمشق بالمدفعية.

«الاحتلال العثماني»

وبالعودة الى تأريخ الرئيس عون بداية الاحتلال العثماني لجبل لبنان بالعام 1516 فله رواية أخرى. ذلك انه وقعت في شهر آب من العام المذكور، في مرج دابق شمال حلب، معركة كبرى بين الجيش العثماني بقيادة السلطان سليم الاول، وهو حفيد السلطان محمد فاتح القسطنطينية، ووالد السلطان سليمان القانوني احد اشهر السلاطين العثمانيين، من جهة، والجيش المملوكي بقيادة السلطان قانصو الغوري من جهة أخرى. وكان المماليك يتولون الحكم في مصر وسوريا منذ ان تمكنوا من هزيمة آخر الصليبين. لكن الاهلين قد سادهم التململ منهم بسبب تدهور مستوى ادارتهم وانتشار الفساد فيها. فرحبوا بالعثمانيين كمنقذين.

وكما كان معمولاً به منذ الفتح الاسلامي لسوريا، الذي حُسم امره بهزيمة الجيش البيزنطي في معركة اليرموك على يد جيش خالد ابن الوليد الذي كان قد قضى على الحكم الفارسي في العراق، فإن جبل لبنان كان يتبع والي دمشق. وفي العهد المملوكي فان الوالي كان يسمى نائباً. وأيضاً كما كان معمولاً به في كل العهود، فان من وظائف الوالي جمع الجنود وضمهم الى جيوش السلطان وجباية الضرائب عن طريق التلزيم. وهكذا فقد انضم الى جيش السلطان الغوري مقاتلون من النواحي التابعة لنيابة دمشق ومنها جبل لبنان تحت قيادة اعيان من الجبل وفي طليعتهم فخر الدين المعني (الاول). ولكن هؤلاء الاعيان، وعملاً بنصيحة قنبرد (جان برد بالجيم المصرية) الغزالي، نائب حماه آنذاك، والذي سيصبح بعد الانتصار العثماني نائباً على دمشق، تمهلوا في الدخول في المعركة محاولين اولاً معرفة من سيفوز فيها. ولما انتصر السلطان سليم الاول فإن اعيان جبل لبنان انضموا فوراً الى قواته واعلنوا ولاءهم له.

فتمت مكافأتهم بإعطائهم الالتزامات الضريبية في جبل لبنان أي يتخويلهم سلطة جمع الضرائب من عامة الناس ولا سيما منهم الفلاحون، مع حق الاستعانة، لهذا الغرض، بمسلحيهم على حسابهم الخاص، وقد عرف هؤلاء «بالمقاطعجية».

وعلى سبيل التصحيح البسيط للتاريخ، فإن الامر لم يستتب للعثمانيين في سوريا ومصر فور انتصارهم في مرج دابق حتى العام 1517.

 

يقول مؤرخ كبير هو البروفسور فيليب خوري استاذ التاريخ في جامعة MIT الامريكية والرئيس السابق لمجلس امناء الجامعة الامريكية في بيروت (سابقاً: الكلية السورية البروتستنية) في مقدمة كتابه: «سوريا تحت الانتداب الفرنسي»، ان انتهاء الحكم العثماني في سوريا، ومن ضمنها لبنان، لم يؤثر ابداً على الحياة السياسية فيها ولا على الفاعلين في تلك الحياة. وقد تولى قيادة الحركات السياسية الكبرى في سوريا تحت الانتداب الفرنسي اعضاء العائلات الكبرى والموظفون الكبار السابقون في الادارة العثمانية. فتأمنت بذلك استمرارية للعمل السياسي وممارسة النفوذ كالسابق. وان الرجال الذين كانوا مهمين في سوريا تحت الحكم العثماني هم ذاتهم وذريتهم الذين ظلوا مهمين ونافذين تحت الانتداب. ولم يؤدِّ انتهاء الحكم الفرنسي الى اي تغيير في سلوكهم علماً بأن النظرة الى الوجود الفرنسي كانت دائماً بإعتباره وجوداً غير شرعي واحتلالاً غريباً في حين ان السلطان العثماني كان يستمد شرعيته من كونه خليفة المسلمين.

ولما كان اعيان جبل لبنان دائماً في خدمة والي دمشق، لم يكن العثمانيون في حاجة لاقامة اي نظام احتلال في الجبل، لا سيما وأن اهله كانوا من الرعايا العثمانيين، على الاقل منذ صدور قانون الجنسية العثماني في العام 1869 واستمروا يحملون الجنسية العثمانية، التي اصبحت تركية، الى حين صدور القرار 2825 عن المندوب السامي الفرنسي تطبيقاً لمعاهدة لوزان.

ولأن المغتربين في امريكا الجنوبية سافروا اليها من جبل لبنان بجوازات سفر عثمانية فإنهم كانوا يعتبرون من الاتراك.

فيا للاول ايلول 1920 من يوم أسود. وبئس الاحتفال بمثل هذا اليوم المشؤوم.