IMLebanon

الاقتراض يفاقم التفاوت الاجتماعي والاقتصادي

كتبت إيفون أنور صعيبي في صحيفة “نداء الوطن”:

لتراكم الدين العام،أكلاف باهظة غالباً ما تدفعها “أجيال” الطبقتين الوسطى والعاملة. من هنا يرتبط الدين العام ارتباطاً مباشراً ووثيقاً بازدياد الهوّة بين الطبقات الاجتماعية وتالياً عدم المساواة. على مدى أعوام استفاد كل من استثمر بسندات الخزينة، من “هدر” النفقات الحكومية. كان ذلك على حساب تشغيل القطاع الحيّ، لتكون النتيجة تقلص القطاع الانتاجي وانعدام الفرص وانحسار النمو. الى ذلك، أضعف اعتماد الاقتصاد على الأموال الآتية من الخارج، أكثر من اعتماده على النشاط الاقتصادي الداخلي، قدرة الحكومات على التحكم بمصاريفها، وقلل في أكثر الأحيان من فعالية الإجراءات التي تتخذها. كذلك أوقع الاتكال المضمر على الثقة الخارجية المشتراة بأموال الخزينة، المالية العامة في فخ المبالغات، وأوجد الفجوة الدائمة بين الآمال والوقائع، وبين الحقيقة والخيال. ففي معظم سنوات ما بعد الحرب الأهلية، تحرك الدين العام صعوداً متأثراً بديناميات عدة، ابرزها سرعة نموه، وجعل “الاقتراض” أساس الحركة الاقتصادية والمالية في البلد. فبعد انتهاء الحرب الأهلية، شرع لبنان في عملية اقتراض واسعة أدت إلى تضخم الدين العام بسرعة كبيرة. كان لهذا الدين الدور الابرز في تفاقم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية الآخذة في الاتساع، لدرجة باتت اليوم تهدد الاستقرار.

حتى وقت قريب، كان المفهوم الطبقي مبنياً على المساواة الاجتماعية والاقتصادية – نسبياً. لكن وبحسب أرقام ضريبة الدخل، فإن 1 % فقط يتحكمون بـ 25% من إجمالي الدخل القومي. وقد عكست الودائع المصرفية هذا التوزيع غير المتكافئ حيث أظهرت بيانات العام 2017 أن 20% من مجمل الودائع تتركز في 1600 حساب، أي بنسبة0.1% فقط.

اذا، كيف أثّر الاقتراض العام في التسعينات على توزيع الدخل في لبنان وتفاقم عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية؟ لقد فرضت شروط الإقراض عبئاً كبيراً على خدمة دين الدولة. رغم ذلك، لا يشير الدين العام للبنان وحده إلى أن الثروة موزعة بشكل غير متساوٍ، وليست ايضاً نسبة الدين قياساً الى الناتج المحلي الإجمالي (والمقدّرة حالياً بـ 150%) سبباً أوحد للقلق؛ فقد بلغت ديون اليابان على سبيل المثال 234% من ناتجها المحلي الإجمالي العام 2017، لكنها لم تتّسم يوماً بعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية الحادة مقارنة بالدول الصناعية الأخرى، وهنا تكمن المعضلة التي يرزح تحتها الوضع اللبناني ككل. لم تكن شروط الاقتراض مؤاتية للخزينة. حيث دخلت الحكومة اللبنانية في دوامة من المديونية العميقة من أجل الوفاء بالتزاماتها المتعلقة بخدمة الديون. الى ذلك، اعتمد الاقتراض العام على قاعدة إقراض محلية ضيقة. وفي الوقت نفسه، تضخمت محافظ القروض الشخصية لدى المصارف، مع زيادة الأسر لاستهلاكها.

اليوم، تحقق سندات الخزينة أعلى معدلات فوائد في جميع أنحاء العالم وهي بالكاد تتطابق مع أسعار السندات اللبنانية المقدمة خلال التسعينات. ففي تركيا والأرجنتين، وعدت السندات الحكومية بعائد سنوي يزيد عن 20% العام 2018. ومع ذلك، تظل أسعار الفائدة في السوق على حسابات الادخار الفردية في كلا البلدين أعلى من عائدات السندات الحكومية. هذه الفجوة بين الفائدة التي تدفعها البنوك للمودعين والعوائد من الاحتفاظ بالديون الحكومية لها آثار كبيرة على سوق الائتمان في الاقتصاد. لا تستطيع البنوك جني الأرباح من خلال إقراض أموال للحكومة تم جمعها من الودائع الفردية، لأن العائد من السندات الحكومية أقل من الفوائد المستحقة على حسابات الادخار الخاصة. بدلاً من ذلك، ولجذب الودائع والاستمرار في جني الأرباح، يتعين على البنوك تحديد فرص الإقراض بأسعار أعلى مما تدفعه البنوك على الودائع. في السوق حيث تتجاوز عوائد حسابات الادخار الفائدة على السندات الحكومية، فإن وجود الحكومة كمقترض محتمل لا يجذب المقترضين من القطاع الخاص.

خلال التسعينات ارتفعت العوائد على سندات الخزينة بنسبة 36% في احيان كثيرة. وتم تحقيق عوائد أعلى بكثير من معدلات الفائدة التي كانت البنوك تعرضها على حسابات الودائع. وأعطت السندات ذات الفائدة المرتفعة للبنوك عائداً تجاوز إلى حد كبير التزامات البنوك المتواضعة نسبياً تجاه المودعين في حسابات الادخار. ونتيجة لذلك، لم تعد البنوك مضطرة إلى وضع العامل المالي وإدارة المخاطر لتحديد الفرص التجارية ذات العوائد المرتفعة في القطاع الخاص. من هذا المنطلق ليس من المستغرب أن يتم تهميش سوق الائتمان الخاصة ومن خلالها الاقتصاد الحي.

عن الموضوع يرى مستشار التنمية أديب نعمه ان” تفاقم الدين العام يؤثر على اللامساواة الاجتماعية بطريقة غير مباشرة ولكن مجحفة. فالدولة تقترض الاموال لانفاقها على مشاريعها وتمويل خدمة الدين والتي تصب في نهاية المطاف في مصلحة الطبقة الحاكمة ومن يدور في فلكها، وهذا ما يعمّق اللامساواة الاجتماعية. يولّد هذا الانفاق المزيد من الديون والاعباء التي بحاجة الى التسديد؛ وان كان التسديد من خلال نظام ضريبي غير عادل وعلى حساب الفئات الشعبية ومن خلال تحييد القطاعين العقاري والمصرفي خصوصاً لاعتبارهما يملكان الحصة الاكبر من الثروات، عندها تتعمق اللامساواة لاعتبار هذين القطاعين لا يساهمان في تسديد الدين العام في حين يجنيان أموالاً طائلة. الى ذلك فان الدين العام بشقّه الداخلي يمثّل دوامة لامتناهية باعتبار ان المودعين الكبار من المصارف واصحاب الاموال هم في غالبيتهم من السياسيين أو الموالين لهم. وهم يستفيدون من الفوائد المرتفعة على الدين الذي يقومون باقراضه للدولة، ليتم تسديد الدين على عشرات الاعوام وتحميل اعبائه للفقراء ومتوسطي الحال. ومثال ملموس على ذلك هو الدعم الذي يوضع في قطاع الكهرباء حيث سيستفيد اصحاب الكارتيلات والسياسيون الفاسدون بطرق عدة. اذاً، هكذا يعمق الدين العام التفاوتات واللامساواة الاجتماعية المتوارثة عبر الاجيال”.

تستنزف خدمة الدين الحكومي أكثر من نصف إيرادات الخزينة العامّة ضريبية كانت أم غير ضريبية والتي يسددها الشعب من شتّى انواع الضرائب والرسوم بدءاً من الضريبة على القيمة المضافة، مروراً بالرسوم الجمركية وصولاً الى الضرائب على الاجور… أي أن أصحاب الدين الفعليين هم غالبية الشعب الذين يسددون فواتير تمركز هذا العبء بأيدي “قلّة” ويمنحهم “السلطة” على الحكومات المتعاقبة. لذا، بات من الضروري اجراء تحليل تاريخي شامل عن الدين العام وعدم المساواة والسلطة لملكية الدين العام في لبنان.