IMLebanon

الرقص الشرقي… نواعم توقّفن عن “الهز”

كتبت ساندي الحايك في “نداء الوطن”:

 

في البدء كان الرقص. منذ التكوين ترجم البشر أحاسيسهم بأجسادهم. تحوّل انسياب الأجساد بالرقص إلى لغات بلا حروف تتناقلها الأجيال تباعاً، حتى ارتبط بعض أنواع الرقص بتراث العديد من الشعوب وأضحى واجهة حضاراتها، مثل “التانغو” في الأرجنتين و”السامبا” في البرازيل، و”الفلامينغو” في إسبانيا، و”الباليه” في روسيا وفرنسا، و”الرقص الشرقي” في مصر ولبنان والسعودية وسوريا وغيرها من دول الشرق العربي. إلا أن حال الرقص الشرقي تختلف عن الأنواع التي سبق ذكرها، فالشرق يصم الراقصات، ويصورهنّ في خانة بائعات الهوى. على الرغم من وجود الكثير من الراقصات اللواتي قدّمن بأجسادهن لوحات فنية ترتقي إلى مستويات عالية من الإبداع، لا تزال إشكالية ربط الرقص الشرقي بالطقوس الجنسية والإغراء متحكمة بالعقلية السائدة، وهو ما ساهم في انحداره ودفع بالعديد من الراقصات إلى الابتعاد عنه.

في الفترة الممتدة ما بين الستينات والثمانينات شهد الرقص الشرقي عصراً ذهبياً. لمعت أسماء العديد من الراقصات وخُلّدت في الذاكرة لوحات لبعضهن، لكن هذا المجد ما لبث أن تهاوى. قديماً، كان تقديم عرض راقص لا يقل قيمة عن تقديم عرضٍ غنائي. تقف الراقصة على خشبة مسرح فسيح، بينما يتوزع خلفها أفراد الفرقة الموسيقية. يعزف هؤلاء موسيقاهم بشجن بينما تُقدّم هي فنها بشغف ومتعة فريدة، إذ تُشيع في نفوس الناظرين أجواء من البهجة لا تُضاهى. تغيير المعايير بين الأمس والحاضر له أسباب عدّة، أبرزها بحسب “صانع النجوم” الراحل سيمون أسمر يعود إلى تراجع قيمة الفنون بشكل عام. إذ يكشف في حواره الأخير (الهاتفي) مع “نداء الوطن” أن “الرقص كالغناء، هناك من يُقدّم عملاً فنياً متكاملاً وجميلاً، وعلى المقلب الآخر من يُقدّم عملاً مبتذلاً وبلا معنى. وفي ظل الضوضاء الحاصلة في هذا المجال وكثرة اللاهثين وراء الشهرة خسر الرقص الشرقي قيمته وسحره وإرثه العظيم”، مضيفاً: “إن سهولة وصول أي عمل إلى الناس وتداوله بكثرة، بغض النظر إن كان ناجحاً أم لا، في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، جعل المنافسة أكثر ضراوة وبات بروز المتميزين أصعب، خصوصاً إن كانوا يشكون من نقص الدعم، إذ يُمكن أن يذهب “الصالح بعزاء الطالح”، وهذه مشكلة العصر”.

يُصر الأسمر على وصف الرقص الشرقي بالرقص الإبداعي، مؤكداً أن الراقصة “مبدعة تستحق إحاطتها بنظرات الإعجاب والتقدير، من هنا كان إصراري على الاهتمام بهذا الفن بقدر اهتمامي بأمور أخرى، فأدرجنا فئتي “الرقص الفولكلوري” و”الرقص الشرقي” في برنامج “استديو الفن” منذ انطلاقته في العام 1972. ومع ظهور هويدا الهاشم في برنامج “ليلة حظ” مع الإعلامي زياد نجيم في العام 1987، بدأت أولي اهتماماً مضاعفاً لعروض الرقص الشرقي التفاعلية، خصوصاً في ظل وجود عدد من الراقصات المتميزات. فنحن عندما نلمس لدى أي شخص مؤهلات تقديم العروض الضخمة على مسارح الـ (show) نقدم له الدعم لتطوير مهاراته”. يسكت الأسمر برهة ثم يضيف ضاحكاً: “لفهم الأمر أكثر يُمكن تشبيهه بالخيول. جميعها تملك قامات رشيقة وتركض بسرعة البرق، ولكن الخيل المتميز يحظى باهتمامٍ أكبر لأنه قادر على تقديم عروض أكثر إبهاراً”.

وعن تجربة “هزّي يا نواعم”، يقول: “هذا النوع من البرامج يحتاج إلى إنتاج ضخم، وفي ظل حالة الإفلاس التي تعاني منها المحطات اللبنانية لم يعد ممكناً تكرار التجربة. إلى ذلك، أعتقد أن الظرف الآن لم يعد مؤاتياً إذ إن الانحدار طاول كل شيء. الزمان الآن ليس زمان صنع النجوم”.

قد تكون النظرة السلبية للرقص الشرقي نتجت من الحكايات والأساطير التي جرى إثباتها تاريخياً، كحكايات الراقصات الجواري في قصور ملوك السلطنة العثمانية، أو عودة بالتاريخ إلى أيام مصر واليونان، وبدلاً من استئصالها، ترسّخت في أذهان العامة بفضل عوامل عدّة، منها ربط السينما المصرية في العديد من الأفلام بين الرقص وسلوك الراقصة، بحيث صوّرتها على أنها الفتاة اللعوب الرخيصة اللاهثة وراء المال والشهرة، وأحياناً “خطّافة رجال”. إنما ثمة من يعارض هذا الرأي، إذ يوضح الناقد السينمائي المصري شريف صالح أن “السينما المصرية كرّمت الكثير من الراقصات وكانت سبباً في انتشار عروضهن أكثر بين الناس، مثل الراقصة نعيمة عاكف التي تُصنّف من أهم راقصات العالم العربي، فقط جمعت في رقصها توليفة خاصة بين الرقص العربي المعروف والرقص الفرعوني. وكذلك تحية كاريوكا التي يُمكن تصنيفها كأفضل راقصة امتهنت التمثيل، حيث كُتبت أفلام خصيصاً لها. وهي من القليلات اللواتي استطعن أداء الرقص بشكلٍ مبهر وسط تناغم مفرط بين جسدها وروحها، من دون السماح لأحدٍ أن يعاملها كسلعةٍ أو أن يشبهها بدميةٍ متحركة، أو حتى أن يشعر بأنه يملك الحق في لمس جسدها”. ويضيف: “الفترة الذهبية للرقص الشرقي كانت مع بديعة مصابني التي طورته وانتشلته من ارتباطه بالدعارة والجنس. وأنا أسمح لنفسي أن أقول إن مصابني أحدثت ثورة في الرقص كثورة أم كلثوم في الفن”.

ويرى صالح أن “طبيعة الرقص الشرقي حسيّة لكونه مرتبطاً بالجسد، فلا شكّ أنه يكتنز خصائص إغرائية تميّزه عن كل أنواع الرقص الأخرى، لكن هناك من طوّره وأضاف إليه تصاميم جعلته أقرب إلى لوحة فنية تُثير في الناظر الدهشة من جمالية ما يرى وليس الإثارة الغرائزية، وأبرز مثال على ذلك الراقصة فريدة فهمي التي أدهشت الناس بأدائها الفريد فعلاً”، ويتابع: “ما يحصل في حاضرنا اليوم هو نتيجة تراجع الإيمان بالفن والثقافة بشكل عام وعدم احترام الفنون ولا سيما الرقص، ما أدى إلى هبوط في مستوى الراقصات، خصوصاً مع فتح الباب واسعاً أمام قدوم الراقصات الأجنبيات، الروسيات والأوكرانيات في الدرجة الأولى، اللواتي يحفظن الحركات ويكررنها من دون أي حسٍّ حقيقي بالكلام أو الموسيقى، بحيث تحوّل الأمر إلى امرأة تعرض مفاتنها وليس راقصة تؤدي مشهداً فنياً”.

في لبنان، لمعت أسماء العديد من الراقصات، ولكن مع بدء انحسار ظاهرة امتهان الرقص الشرقي كفن يحمل عروضاً غابت معظمهن اعتزالاً.

نادية جمال هي يونانية الأصل واسمها ماريا كاريدياس، بدأت الرقص في عمر 13 عاماً في كازينو بديعة مصابني. اكتشفها الفنان فريد الأطرش وأعطاها اسم نادية جمال. ظهرت في أفلام مصرية عدة، أولها مع فريد الأطرش في فيلمه “رسالة غرام” العام 1954، ولاحقاً في “عهد الهوى” و”قلبي يهواك” و”زنوبة”، و”إزاي أنساك”. ثم عادت للظهور في لبنان حيث شاركت في مهرجانات بعلبك مع روميو لحود. توفيت في حزيران 1990 بعد صراع طويل مع المرض.

أماني واسمها أنجل أيوب. أحبت الرقص منذ نعومة أظافرها وامتهنته بعد حصولها على شهادة جامعية في علم الاجتماع. اكتسبت شهرة واسعة في العام 1992 كراقصة على خشبة المسرح. كانت أول فنانة تقدم رقصاتها مصورة على شكل “الفيديو كليب”. ارتبطت أغنية “حلاوة” الصعيدية بإحدى أجمل لوحاتها في الرقص الشرقي. اعتزلت الرقص بداية التسعينات.

داني بسترس وهي واحدة من أكثر الراقصات إيماناً برسالته كفن. خاضت معركة طويلة مع أهلها حتى تمكنت من تحقيق حلمها بارتياد المسارح والرقص، فهي تنتمي إلى عائلة بيروتية أرستقراطية وثرية ومحافظة جداً عارضت بشدة دخولها عالم الرقص. رفضت استخدام كلمة “رقاصة” ودرست الرقص اكاديمياً وانفتحت على أنواع متعددة منه كالباليه والتشاتشا. شاركت إلى جانب الفنان ملحم بركات في مسرحية “ومشيت بطريقي” التي لاقت رواجاً واسعاً. أنهت حياتها انتحاراً في العام 1998.

ناريمان عبود واسمها الأصلي ماري عبود. بدأت مشوارها في العام 1987 واستطاعت أن تحجز مكانة لها رغم المنافسة الشديدة في حينها. لُقبت في الصحافة بـ”حورية الرقص الشرقي” وحفظت لها الساحة الفنية لوحات عدة مثل “حبة حبة بالدلال”، و”ناريمان وبس”. اعتزلت بعد زواجها من الفنان وسام الأمير.

سمارة واسمها الأصلي طاهرة وهي عراقية الأصل. بدأت الرقص في العام 1982 وعرفت برقصها على أغاني أم كلثوم وألحان محمد عبد الوهاب، وكانت لها تجربة سينمائية واحدة في فيلم “الرؤية” مع النجم فؤاد شرف الدين. في أواخر التسعينات اختفت عن الساحة الفنية لأسباب غير معروفة.

هويدا الهاشم: انطلقت في العام 1985 وعُرفت بـ “أسطورة الرقص الشرقي”. في العام 1986 أطلت مع عازف الإيقاع الشهير “ستراك”، وتحدت طبلته بسرعة أدائها وخفتها. عُرفت بقدرتها الفريدة على الرقص بالعصا إذ كانت تُمسك العصا من طرفها وتحرّكها بشكل دائري بمعدل 40 دورة في 10 ثوان، أي 4 دورات في الثانية، وهو تكنيك ذو حرفية عالية. توارت الهاشم في أواخر التسعينات من دون أسباب واضحة، فيما أشيع مراراً عن احتمال عودتها إلى الرقص، لكنها تكشف في حديث لـ “نداء الوطن” أن “الرقص الشرقي في العالم العربي بات متعباً وفي تراجع مستمر وذلك لأسباب عدة أبرزها عدم الجدية في التعاطي معه كفن من قبل الراقصات، وغياب روح المنافسة واختيار الطريق الأسهل للوصول في ظل نُدرة الإنتاج الفني الداعم للرقص الشرقي”، مشيرةً إلى أن “أكثر ما نراه هو رقص شرقي بخصور أجنبية، أي رقص هجين عوضاً عن أن يكون رقصاً شرقياً أصيلاً”.

في تقييم تجربتها ترى الهاشم أن “الرقص حياة وروح وسحر لا يُكتشف ولا يُمكن البوح به. لا يمكن لراقصة أن تمل تأديته أو احترافه أو عشقه، لأن الرقص ينبع من القلب، وكل ما يخرج من القلب لا يمكن إلا أن يُلامس قلوباً أخرى أيضاً”.