IMLebanon

حين يقتحم الطابور الخامس ساحة رياض الصلح

كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:

بين أن يبقى لبنان ينتفض أو أن “يُطفئ محركاته” الإعتراضية ويقبل بورقة إقتصادية تأخرت “صياغتها” كثيراً ضاع كثيرون، وبين “الإستلشاق” الهائل و”الرعاية” الإستثنائية السريعة، في أقل من 72 ساعة، سادت دهشة عارمة قوامها: كيف لمن اتهموا بالسرقة أن يقولوا بهذه السهولة: هذه بعض أموالكم. خذوها.

كأنهم يضحكون علينا. إنهم يضحكون. هكذا هم من زمان أما نحن، فكنا في الأيام القليلة الماضية، عكس كلّ الأيام: اليد باليد. جميلٌ جداً هذا الشعور. رائعٌ أن نمسك أكفّ بعضنا ونطالب بنفسِ المطالب، بالحقّ والعيش الكريم وبالحلم والإنتماء وبالخبز والتعليم والشيخوخة وبخفض الضرائب ولجم رعونة سلطة ما عادت ترى، من زمان، أبعد من أنفها.

انطلق الإعتصام من دون كلمة سرّ إنما بإحساسٍ عارم بأن السكوت عن الحقّ معناه، هذه المرة، موت. انتفض الناس بعفوية لكن هل بقي الإعتصام أمس، في يومه الخامس، عفوياً أم أن السلطة بدأت باكراً بالتحضير لالتهام الغضب قبل أن يُحرقها؟

منذ ليل أوّل من أمس، بدأ الكلام عن “متظاهري السفارات”! وأمس، منذ الصباح، بانت نجمة داوود وشارات أميركية، على الزفت، في رياض الصلح وساحة الشهداء وصدحت عبارات الصهيونية والصهاينة والعمالة. نسي كثير من المتظاهرين لماذا نزلوا الى الشارع. نسوا “الواتساب” والضرائب والفقر والتعتير وراحوا يحرقون العلم الأميركي وصور رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. هؤلاء هم المندسون. المعتصمون أمس، عند الظهر، ما كانوا يشبهون كثيراً المعتصمين أول من أمس وما قبله وما قبلهم. كانت لعبة “الطابور الخامس” قد بدأت.

منفّخو النراجيل افترشوا الأرض. الرأس بثلاثة آلاف والنرجيلة كاملة بخمسة. النرجيلة سببٌ آخر، بدخانِها الكثيف، لجعلِ المعتصمين “يدوخون” وينسون لماذا أتوا. لكن، في المقابل، أصرّ كثيرون على عدم تنشق الدخان وإغفال المطالب. هؤلاء هم من انتفضوا في اللحظات الأولى ومن أصروا على المكوث حتى إحقاق الحقوق.

الأعلام اللبنانية مع عشرات الباعة. الواحد بثلاثة آلاف والأربعة بعشرة. قنينة المياه بخمسمئة ليرة. الكعكة مع الجبن بألف. “نحو الحريّة” شعار عمره من عمرِ ثورة الأرز عاد. والمطالبُ الشعبية حددتها حركة المقاومة المدنية على شريط أبيض لفّ به مبنى التياترو الكبير: تشكيل حكومة إختصاصيين مستقلين. إنتخابات نيابية مبكرة. إقرار قانون إستعادة الأموال المنهوبة. نقارن بين هذه المطالب وبين ما أقرّ في ورقة الإصلاحات. ورقتان لا تشبهان بعضهما.

شعاراتٌ ارتفعت أمس على حساب شعارات وشتائم طالت فئة محددة وأغفلت فئات محددة. هذا هو الطابور يقترب. وهتاف “نحنا الشعب المحرومين” ذكّرنا بفئة محددة من الجمهور. “بالروح بالدم ما منفدي حدا”. شعارٌ ملفت. و”كل الحبّ كل الغرام… الثورة كمان بدا حبّ”. شعارٌ شاعريّ آخر.

“واحد واحد واحد لبنان شعب واحد”. فان يحمل في بطنِهِ آلات موسيقية ومكبرات صوت، وعلى ظهره جوقة ردادين يهتفون بذلك. ننظر الى ثلاثة شبان يقومون بحركات نابية بأصابعهم في اتجاه شاب في المبنى المطل، في الطبقة السابعة، يرسم لهم شارة حزبية. نتركهم يفعلون ما يفعلون وهم يرددون: جوعانين جوعانين الثورة ثورة محرومين.

يا الله كم تُخرق الإعتصامات الناصعة، البيضاء، بطوابير سوداء. أعداد المتظاهرين تزداد. أمهات مع أولادهن. أساتذة مع تلاميذهم. عشاق وأصدقاء ورفاق. مشاهد مختلفة. الناس شرائح ونماذج و”شعب الثورة ما بيموت”. الثورة جميلة. نتذكر مقولة قديمة: غياب الأمن يصنع الفوضى وغياب العدل يصنع الثورة.

الآن، فجأة، يعدوننا بالعدل وبالعدالة الضرائبية. نقول “عاشوا وفاقوا”. نكمل بين المتظاهرين. الأيادي لا تزال تقبض على نرابيج النرجيلة. وثلاث سيارات يقوم أصحابها في تشكيل كل المشهد. الأغنيات العروبية زادت أمس عن كل ما عداها.

“أفران الوفاء” أرسلت بدل الفان فانات. والشغل “عال العال”. الناس تتقاطر. والوعود تتكرر: لن نغادر حتى استقالة الحكومة. راقصة شرقية وصلت للتوّ. جميلٌ هو الغناء والتمايل على أصداء الأغاني الثورية لكن ما لزوم راقصة شرقية؟ طابور خامس؟ يسأل رجل مع أولاده الثلاثة.

أحدهم وصل مع شقيقته فتحا طاولة ووضعا قصاصات ورقية وطلبا من المعتصمين اختيار خمسة أشخاص غير محازبين لترشحهم واستلامهم زمام الأمور الى حين إقامة انتخابات نيابية جديدة. نقرأ بين الأسماء المختارة: شربل نحاس، زياد بارود، بولا يعقوبيان، مروان شربل و… أنا… أحدهم لم ير في غيره من يستأهل.

قصاصات ورقية كثيرة عُلقت. الحريّة لإسراء عبد الفتاح. “فليسقط مديري بالشغل”. نمشي في ارجاء ساحة الشهداء. نتوقف الى جانب التمثال. نرى يافطة بالإنكليزية مركونة جانباً نقرأ فيها ما معناه: مع كل محبتنا ودعمنا الى اخواننا واخواتنا في لبنان. التوقيع: سوريون. يمرّ أجنبي الى جانبنا ونسمعه يردد: مدهش… مدهش… Amazing…Amazing

نقرأ عبارة: أميركا شرّ مطلق. نحمد الله أنه لا يعرف اللغة العربية.

نغادر الساحة، في يوم الإعتصام الخامس، بعد أن انتهت مهلة السماح، وسرح الطابور الخامس، وقيل ما قيل… سيغادر المعتصمون الساحات؟ لن يغادروا الساحات؟

نغادر ونحن نتمتم مع ملحم بركات: موعدنا أرضك يا بلدنا مهما تغربنا وبعدنا الله الله يا بلدنا.