IMLebanon

كارثة الرواتب تُهدِّد القطاعين: مَن يقطف ثمار الإنهيار المحدِق؟

كتبت رلى موفّق في صحيفة “اللواء”:

لا تشي الاتصالات الداخلية بأي حلحلة سياسية تؤدي إلى ولادة الحكومة العتيدة. كل من الفرقاء لا يزال على موقفه، والنقاش عالق عند العقدة ذاتها المتمثلة بطبيعة الحكومة بين حكومة تكنوقراط يضعها زعيم تيار «المستقبل» سعد الحريري شرطاً لتولي الحكومة ويطالب بها «القوات» و«الاشتراكي» و«الكتائب»، وبين حكومة تكنو – سياسية يُصرّ عليها «حزب الله» وحلفاؤه ومن ضمنهم رئيس الجمهورية وتياره السياسي. كل من الفريقين يرفض طرح الآخر، ويراهن على تعب هذا الآخر.

هي لعبة شدّ حبال وعض أصابع بين فريقين وامتداداتهما على الساحتين الإقليمية والدولية، فمن سيصرخ أولاً؟ قراءة المعطيات تشي بأن «حزب الله»، رغم تراجع وضعه بعد اشتداد الخناق الاقتصادي والمالي على إيران وأذرعها العسكرية، سيكون في وضع متقدم على الآخرين وأفضل منهم، حين يعم الانهيار المالي البلاد ونغرق في الانهيار الاقتصادي الكلي. والآخرون هم الدولة ومؤسساتها ومعها عموم الشعب اللبناني خارج بيئة «حزب الله» ومناطقه مبدئياً.

هذه القراءة تنطلق من أن الدولة اقتربت فعلياً من السقوط في عجز دفع رواتب القطاع العام على مختلف مؤسساته، وهي إن استطاعت لشهر أو اثنين، فسيكون من الصعب عليها الاستمرار في ذلك. والكلام هنا سيطال في العمق المؤسسات الأمنية والعسكرية التي تُلقى على عاتقها مهام جسام في المرحلة الحالية، وستكون أمام مزيد من تحديات الحفاظ على الأمن والاستقرار مع تأزم الحالة المعيشية المفتوحة على كل أنواع التوترات بفعل الحاجة والفقر والعوز، وما قد ينتج عنها من انحرافات وتداعيات على مستوى الأمن الاجتماعي. فعجز الدولة عن دفع الرواتب والأجور، وهي أكبر رب عمل، سيجعل مئات الآلاف من العائلات اللبنانية متروكين لأقدارهم.

كما أن القطاع الخاص ذاهب نحو كارثة محققة مع الانهيار التام المرتقب لقطاعات أساسية تقوم أساساً على الاستيراد الذي سيتلاشى تدريجياً مع امتناع المصارف عن فتح اعتمادات للخارج، وما سيترتب عليه من إقفال مؤسسات وصرف موظفين، وارتفاع نسبة العاطلين عن العمل مع توقف الدورة الاقتصادية. وسيزداد المشهد سوداوية مع انسداد أفق السفر أمام الكثير من اللبنانيين إلى الخليج العربي نتيجة التضييق الجاري عليهم بفعل العوامل السياسية من جهة، وبفعل تأثر تلك الدول اقتصادياً من فاتورة الحروب الدائرة في المنطقة من جهة أخرى.

سيصيب الانهيار الجميع، لكن التقديرات بأن «حزب الله» سيكون الأقدر على إدارة حال بيئته المباشرة وإدارة مناطقه التي نجح إلى حد كبير في لجم توسع حالات الاعتراض الشعبية فيها حتى إشعار آخر. فهو من ناحية لديه سيولة نقدية وبالعملة الصعبة في خزائنه خارج المصارف، وهو الأكثر استفادة راهناً من وجود سوقين للصرف في البلاد، إذ يفتح وجود السوق السوداء للعملة الباب واسعاً أمام عمليات تبييض الأموال التي تؤدي إلى نتائج معاكسة لمحاولة محاصرته. هذا ما يدفع بكثير من المراقبين إلى الاقتناع بأن السيناريو الأمثل لـ«الحزب» هو الإبقاء على «الستاتيكو» الحالي، في سيناريو «اللاحكومة» بحيث أن الفوضى الاقتصادية والمالية والاجتماعية سيتضرر منها الكل، إلا انه سيكون آخر المتضررين، أو المهيئين على الصمود الأطول.

ربما تحتاج تلك المقاربة إلى دراسة أعمق وتدقيق أكثر، إذ أن الانهيار سيصيب كل البيئات اللبنانية، ولا سيما البيئة الشيعية التي ليست غالبيتها تحت العباءة المالية لـ«حزب الله» أو مستفيدة منه بالمباشر، ما يعني أن أكثر من نصف أو ثلاثة أرباع العائلات الشيعية سيُعاني كما يُعاني اللبنانيون جميعاً، وهذا سينعكس بشكل طبيعي على البيئة الشيعية بمجملها وعلى مناطقها.

وأفضلية «سيناريو اللاحكومة» بالنسبة إلى «حزب الله» يعود إلى أن الموافقة على حكومة تكنوقراط ستشكل هزيمة له أمام جمهوره وبيئته وخصومه على السواء، ولا سيما بعدما قطع أمين عام «الحزب» السيد حسن نصر الله الطريق على هكذا حكومة برفضه لها وتكرار ذلك الرفض، واشتراطه حكومة تكنو- سياسية. بالنسبة لـ«الحزب»، فإن المواجهة مع واشنطن تستدعي الحزم في المواقف، وما تريده منذ البداية إقصاء «الحزب» عن المشاركة في الحكومات، وهي لم تخفِ ذلك منذ قرَّر «الحزب» المشاركة مباشرة بعد انتخابات 2005 وخروج قوات النظام السوري من لبنان. وكان الأميركيون على الدوام يقاطعون الوزارات التي يتولاها وزراء «الحزب»، وبالتالي فإن حكومة تكنوقراط ستُعد انتصاراً للولايات المتحدة في هذه اللحظة الحاسمة.

ما يُدركه «حزب الله» أن حكومة بحسب المواصفات التي يضعها الغرب القادرة على القيام بإصلاحات بنيوية في هيكلية الدولة وتخفيض عجز الموازنة وضبط مواردها وجباياتها ومرافقها وحدودها منعاً للتهريب من أجل دعم لبنان والإفراج عن مؤتمر «سيدر»، والعمل على توجيه الاستثمارات والودائع من أجل النهوض به مجدداً، هي الطريق ليس فقط للحد من الفساد المستشري لدى الطبقة الحاكمة على اختلافها، بل أيضاً وضع حد للدويلة داخل الدولة التي أنشأها «الحزب» بكل تشعباتها الاقتصادية والتجارية والمالية، والتي ساهمت في جزء كبير في ضرب الدورة الاقتصادية الطبيعية لسنوات خلت.

حكومة من دون مشاركة جلية لـ«حزب الله» مرفوضة منه، وحكومة مع «حزب الله» مرفوضة من المانحين والداعمين الغربيين. الذي يؤكده اقتصاديون أن مستوى الانهيار الذي وصل إليه لبنان ما عادت تنفع معه أي معالجات داخلية، بل يحتاج إلى أموال تُضخ إليه من الخارج، وهي أموال مشروطة ستأتي في جزء منها على حساب نفوذه، ما يجعل لبنان يدور في الحلقة المفرغة طالما بقي موقف «الحزب» على حاله، وطالما ظنّ أن بإمكانه دفع المجتمع الدولي بعد توغل الانهيار إلى القبول بحكومة تكنو-سياسية لاحتواء انزلاق لبنان إلى اضطرابات أمنية.

على أن الطروحات السياسية من قبل «الثنائي الشيعي» ورئيس الجمهورية وتياره للخروج من المأزق لا تؤشر إلى أن هناك استيعاباً للعناصر الجديدة التي دخلت على المعادلة اللبنانية منذ 17 تشرين الأول مع انطلاقة «الثورة الجيلية». فالشارع أصبح عاملاً حاسماً في أي قرار، وهو ما أظهره الاختبار الأخير المتعلق بانعقاد الجلسة النيابية، التي حتى لو فُتحت أبواب المجلس فإن كثيراً من الكتل النيابية ما عادت قادرة على أن تخالف إرادة جماهيرها الذين يتمرّسون في الانتفاض على زعمائهم ومرجعياتهم ونوابهم وسياسييهم وأحزابهم.

الأكيد أنه بات مطلوباً «عدة شغل» جديدة من السياسيين، وآلة قياس مختلفة لأن ما كان صالحاً قبل خروج الناس إلى الساحات والطروقات أصبح منتهي الصلاحية…