IMLebanon

زفّة لنواب المدينة

كتبت ساندي الحايك في “نداء الوطن”:

“هنا طرابلس مدينة السلام”، بهذه العبارة تستقبل المدينة زوارها وسط ساحة عبد الحميد كرامي. هنا حيث تبدّل كل شيء. تغيّرت معالم المكان انطلاقاً من انقلاب المزاج الشعبي رأساً على عقب، مع ثورة الطرابلسيين المنتفضين على ظلم وإقصاء وتهميش فرض عليهم لعقود طويلة. بات لزاماً على الجميع مقاربة أحوال المدينة بعين جديدة ومختلفة. فطرابلس واحدة من ساحات الثورة التي لم تهدأ ولم تنطفئ فيها شرارة الانتفاضة رغم مرور 52 يوماً على انطلاقتها، حتى بات ممكناً تصنيفها على أنها نبض الثورة اللبنانية. لكن على الرغم من كل هذا الزخم الثوري الذي قدمته المدينة بعدما أُتخمت من الذُل والجوع، لا يزال جزءاً كبيراً من قياداتها يعيش حالة إنكار للواقع ويرفض الاعتراف ببلوغ الوعي لدى أبنائها الحدّ الذي يُمكنهم التسلح بالجرأة والثقة للتظاهر أمام منازلهم والمطالبة بمحاسبتهم.

نعم، فعلها الطرابلسيون. نزلوا في مسيرة سلمية أمس الأول، جابوا شوارع المدينة متنقلين بين منزل نائب من هنا ووزير من هناك. ساحة عبد الحميد كرامي كانت نقطة التجمع. وقف رامي في وسطها وعدّل ربطة العلم اللبناني حول رأسه. التفت نحو صديقه متسائلاً “زابطة؟ جاية الأرزة بالنص؟”. أومأ له الشاب بالإيجاب، فصفق بيديه مردداً “تمام”، ثم انصرف بنشاط ملحوظ لتوزيع الأعلام المتبقية على الراغبين. مشى رامي وسط الجموع وهو يُردد “حيّوا عَ الثورة يا شباب”. انهى مهمته ثم عاد ليقف في الصفوف الأمامية بانتظار ساعة الصفر. ما هي إلا لحظات حتى وصل “باص انتفاضة طرابلس” وقد صدحت آلياته بالأغاني الثورية. اصطف المتظاهرون جنباً إلى جنب وكأنهم يتأهبون لعرض ما. شبكوا أيديهم وانطلقوا متراصين في صفٍ واحد ونبض واحد مرددين خلف الشابة التي أوكلت مهمة قيادة هتافات الثورة: “يا نائب ويا وزير شو ما صار وشو ما يصير الثورة جاية والتغيير”.

نعم، فعلها الطرابلسيون. انتقلوا من ساحة النور إلى شارع الجميزات ثم يميناً نحو شارع مستشفى النيني، وهم يقرعون على الأواني و”ركاوي” القهوة والطناجر، ويرددون شعاراتهم الثورية وينادون “يلي واقف عَ البلكون قوم نزال شعبك هون”. هتفوا ضد الطائفية والمذهبية والفساد. رفعوا لافتات كتب عليها: “استحوا يا بلا دم صار في برقبتكم دم”، “حقوقنا حقوق الإنسان بدنا دولة مدنية”، “من الجبل للبحصاص هيدي ثورة بلا رصاص”. صراخهم لم يستثن أحداً. فـ”الكل مسؤولون والكل شركاء في ما وصلت إليه طرابلس رغم امتلاكها لأهم المرافق الحيوية في الشمال”، وفق أحدهم. عنفوان شديد يظهر في خطابات الشباب الطرابلسي، هؤلاء الغيورين على مدينتهم المحرومة لا يُمكن بالنسبة لهم فصل المطالب المعيشية عن المطالب السياسية للثورة، خصوصاً في مدينة تعد الأفقر على طول البحر المتوسط ويعيش فيها أثرى الأثرياء. “الصراع طبقي من دون شكّ”، يردف أحدهم، “فكيف يمكن أن تجتمع معادلة الفقر والثراء بهذا الشكل المفضوح في مدينة واحدة؟”. وللتأكيد أكثر على صدق انتفاضتهم هتف الطرابلسيون بلكنتهم الأصلية، حيث استخدموا كلمة “معلمي” التي تعتبر الأكثر شيوعاً في المدينة، مرددين: “معلمي معلمي معلمي إنتَ حرومي على علمي”.

توقفت المسيرة بداية أمام منزل النائب محمد كبارة. هتف له المتظاهرون “يا كبارة ويا كبارة إلك عندي دبّارة”. طبعاً، الأضواء أطفئت في منزل صاحب السعادة، وصُمت آذان الموجودين فيه عملاً بسياسة “التطنيش” وعدم الاكتراث لصرخات الناس التي ملأت الشوارع منذ شهر ونيّف.

وكبارة من مواليد طرابلس العام 1944، نائب وعضو في كتلة “المستقبل” النيابية وتكتل “لبنان أولاً”. انتخب نائباً للمرة الأولى في العام 1992، وعُيّن وزيراً للعمل في العام 2016. وكغيره قدم الكثير من الوعود أبرزها تأمين موارد مالية لمؤسسة الضمان الاجتماعي وانتخاب مجلس إدارة لصندوقها وتفعيل المؤسسة الوطنية للإستخدام، لكنه كغيره أيضاً غادر “مغارة علي بابا” من دون تسجيل أي إنجاز يُذكر، بل على العكس تضاعف سوء أوضاع وزارة العمل، لا سيما على صعيد ملف تنظيم مكاتب استقدام العاملات الأجنبيات، حيث منح كبارة تراخيص لنحو 300 مكتب استقدام غالبيتها غير مطابقة للشروط القانونية المفروضة. وعلى مستوى طرابلس، برز اسم كبارة في معارك جبل محسن وباب التبانة وفي ملفات عدد من الموقوفين، حيث يتهمه البعض بتغطية العديد من المخلين بالأمن.

تابع الشباب مسيرتهم نحو معرض رشيد كرامي الدولي حيث توقفوا أمام منزل رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي. عشرات الهتافات قيلت للرجل الذي برز اسمه في واحدة من أكثر ملفات الفساد التي أوجعت اللبنانيين، وتمثلت في قروض الإسكان التي يتكل عليها الشباب اللبناني لتأمين مستقبل ما في وطن منهوب، فرددوا له “يا نجيب ويا خرفان ردلنا قروض الإسكان”. (وسبق للرئيس ميقاتي أن ذكر أن لا علاقة للقروض المدعومة التي أفاد منها بتلك المخصصة للإسكان)

تفاجأ الحاضرون بضخامة كاميرات المراقبة الموضوعة في محيط المنزل وعددها الكبير، فما كان منهم إلا أن سألوه هاتفين بصوت واحد: “مركّب كاميرات جديدة؟”. دارت الأحاديث الجانبية بين المتظاهرين الذين استُفزوا من المشهد. صرخ أحدهم: “من يضع كاميرات بهذا الحجم على مدخل منزله يعني أنه خائف. لسنا سارقين ولا مجرمين ولا قطّاع طرق لكي يخاف منا. نحن صادقون ولكنه على ما يبدو لا يعرف هذا النوع من الناس”.

وميقاتي من مواليد طرابلس 1955، يُعتبر من أشهر رجال الأعمال إذ أسس في العام 1982 “شركة إنفستكوم” بشراكة مع شقيقه الأكبر طه ميقاتي، وهو واحد من الشركاء في “مجموعة ميقاتي” التي تملكها أسرته، والتي تنشط في قطاع الاستثمار والاتصالات والبنوك والعقارات والنقل الجوي والأزياء، وقد وضعته مجلة “فوربس الأميركية” في المركز التاسع عربياً من بين أشهر أثرياء العالم العربي في العام 2011، وذلك بثروة قدرت بـ2.8 مليار دولار.

انتخب نائباً عن المدينة لأول مرة في العام 2000، وكان وزيراً للأشغال العامة والنقل من العام 1998 حتى العام 2000، ومرة ثانية في العام 2000 حتى العام 2004. تم تكلفيه برئاسة الحكومة لأول مرة في العام 2005، وكانت الحكومة التي تلت استقالة الرئيس عمر كرامي بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. أما المرة الثانية فكانت في العام 2011 عندما كلّفه رئيس الجمهورية ميشال سليمان برئاسة الحكومة إثر حصوله على 68 صوتاً في الاستشارات النيابية. لكن فترة ترؤسه لم تتجاوز الثلاث سنوات فقد أعلن استقالته في العام 2013. ويضع العديد من الطرابلسيين علامات استفهام حول سلوك ميقاتي السياسي والاقتصادي في الحُكم، ويتهمه البعض بالإثراء غير المشروع نتيجة مشاركة العديد من الشركات التي يملكها أو المساهم فيها بعقود مع الدولة اللبنانية في فترات توليه المناصب.

على الرغم من مرور أكثر من ثلاث ساعات إلا أن نشاط الشبان لا يزال في أوجه. بُحت أصواتهم لكنهم لا يكترثون. يُصرون على متابعة المسير والهتاف. يريدون ألّا يستثنوا منزلاً أو شارعاً إلا ويعبروا فيه حيث ينشرون سحر غضبهم وسخطهم وثورتهم. أخيراً وصلوا إلى منزل النائب فيصل كرامي. يُجمع هؤلاء على أنه كان لهذا البيت تركة سياسية لطالما تغنى بها الطرابلسيون، لكن الزمن تبدل. نخر الفساد عظم كل من في السلطة. هتف المتظاهرون بسلمية كما اعتادوا، لكن مرورهم أمام هذا البيت لم ينته كما بدأ. تجمهر عدد من مناصري كرامي خلف باب الحديد الكبير أمام المنزل، وعمدوا إلى الاعتداء بالضرب على آخر المتظاهرين أثناء مرورهم. علا الصراخ والهرج والمرج فما كان من رفاقهم في مقدمة المسيرة إلا أن عادوا أدراجهم للتضامن معهم. لم يبتعد مناصرو كرامي بل أصروا متابعة استفزازهم للمتظاهرين، وقام أحدهم بإطلاق النار في الهواء ما استدعى تدخل الجيش اللبناني.

ما تعرض له المتظاهرون كان له، وفقهم، استنتاج واحد: “لطالما رفض كرامي زج اسمه بملفات الفساد وخرج علينا بمطالعات عدة يُبرئ بها نفسه من عمليات الاحتيال والفساد، فلماذا إذاً يتعاطى معنا مناصروه بهذا الحقد؟ إذا كان بريئاً من الفساد لماذا يخافون هكذا؟”.

وكرامي من مواليد طرابلس 1971، شغل منصب وزير الشباب والرياضة في العام 2011. خاض الإنتخابات النيابية الأخيرة وفاز حيث شكّل “لائحة الكرامة الوطنية” التي فازت بمقعدين: الأول عن طرابلس، فاز هو به، والثاني عن الضنية لمرشحه في اللائحة جهاد الصمد. بعدها أسس ما عُرف بـ”اللقاء التشاوري للسنة المستقلين”، والذي يضم 6 من أصل 10 من النواب السنة المستقلين في البرلمان.