IMLebanon

طوفان “لولو” قضى على آخر معالم اليهود في بيروت

كتبت نوال نصر في صحيفة “نداء الوطن”:

كلّ شيء جميل في الشتاء عدا “رجفان” الفقراء وتمدد الموج الى اليابسة وزحل القبور! وكلما أمطرت في الشتاء، في بلادنا، “تزحل” الأرض من تحت أقدام المسؤولين لكن ماذا عن خبر جرف الأمطار البارحة مقابر اليهود؟ وماذا عن حال اليهود الأحياء والأموات في بيروت؟ طوفان أمطار وطوفان أخبار وطوفان “توابيت” جعلت الشوارع، بجدٍّ، مقابر!

دمرت “لولو” مقابر اليهود في بيروت. هناك من غمرته السعادة وهناك من قلب في دفاتر اليهود وأصلهم وفصلهم في لبنان مستغرباً أن يكون لليهود أصلاً مقابر. “لولو” شرّعت الباب على ما بقي من الطائفة اليهودية في لبنان، التي “زعزعت” الحرب الكثير من بنيانها وأتت لولو لتزعزع مقابرها.

إسألوا البيارتة عن وادي أبو جميل وسيخبرونكم حتماً عن “يهود لبنان” الذين عاشوا، بغالبيتهم، في هذه المنطقة البيروتية التي لقبت ذات حين “بوادي اليهود”. وكان ما كان. مرّت الايام وغادر كثيرون، بكثير من السرية، لبنان الى اتجاهات أخرى، وانخفض عددهم من خمسة عشر ألفاً العام 1958 الى ثلاثة آلاف ومئتي شخص العام 1967. كلّ شيء يتغيّر مع تبدل الوقت خصوصاً في بلدٍ مثل لبنان مفتوح على احتمالات شتى، لكن أن تجرف الأمطار القبور وتدمر مقبرة اليهود في قلب بيروت لهو أمر مضحك- مبكٍ.

ندى عبد الصمد، الوجه المميز في الصحافة العربيّة، كتبت عن حال يهود لبنان ” اليهودية طائفة اندثرت في لبنان من دون أن يعني ذلك أن يهود لبنان تبرأوا من انتمائهم الى وطنهم”. وسردت عبد الصمد الكثير الكثير من القصص…

كلنا مررنا (ونمرّ) من أمامها. هي تقع عند مدخل طريق الشام، وراء بوابة حديدية سوداء. وفي داخلها أسماء وأسماء عائلات ذات جذور لبنانية بأسماءٍ حين تمر في آذاننا نخال أننا أمام أعداء. فهل تتخيلون أن عائلة كوهين وغولدمان وآرازي وديشي بي ومزراحي لبنانية؟ هي يهودية لبنانية. البارحة قرأنا بين القبور اليهودية المتدحرجة مثل هذه الأسماء في الشارع العام.

هناك من ردد: خيّ! هناك التباس في أذهان الكثيرين ممن لا يفرقون بين يهود وصهاينة. هناك من ابتسم بالأمس مردداً: “لن تعود “الكيبا” الى بيروت لا على الرؤوس ولا في القبور. والكيبا، لمن لا يعرف، هي القبعة اليهودية التي تُركّز على الرأس.

اليهودية هي الطائفة الثامنة عشرة في لبنان. إعتُرف بها أيام السلطنة العثمانية، العام 1913، وسمح الفرمان العثماني للطائفة اليهودية ممارسة الشعائر الدينية، ثم اعترفت سلطات الإنتداب الفرنسية العام 1936 بطائفة اليهود اللبنانيين تحت تسمية الطائفة الإسرائيلية.

هناك كنيس في بيروت. ويملك اليهود أملاكاً في بيروت. وكانت في بيروت معالم يهودية كثيرة بينها مدرسة “التلمود تورا”. وتوجد مقبرة يهود صيدا، مساحتها 35 ألف متر، رُدم بعضها من دون سؤال أبناء الطائفة. وكان هناك كنيس في دير القمر، أقيم محله المركز الثقافي الفرنسي. وهناك كنيسان في بحمدون وعاليه لم يرمما.

في شوارع صيدا القديمة هناك “حارة اليهود”. ثمة يافطة صغيرة مثبتة حتى اللحظة على مدخل الرواق. وورد في كتاب “الطائفة اليهودية في صيدا: تاريخها وحاضرها” للباحث الصيداوي طالب قره أحمد: عن وجود 40 عائلة يهودية في صيدا العام 1975 بقي منها ثلاثة أشخاص بعد الإجتياح الإسرائيلي عام 1982. وأبرز العائلات اليهودية في عاصمة الجنوب كانت “أشكينازي” و”إلياهو” و”بصل” و”ديوان”. ويُحكى أن عائلة ديوان اليهودية كانت ثرية جداً واشتهر أفرادها بالربا. ومن زبائن آل ديوان آل الأسعد الذين رهنوا عقاراً لهم في الطيبة لسداد الدين. ولما عجزوا عن السداد إمتلك إسحاق ديوان الأرض. واشتهر هؤلاء في الصرافة وبيع الذهب والأقمشة والخياطة.

فلنعد الى بيروت لنسأل عن الكنيس اليهودي في وادي أبو جميل، كنيس “ماغن إبراهيم”، الذي هدمه الطيران الإسرائيلي العام 1982. وإعادة إعمار هذا الكنيس ترافق مع كثير من الأخذ والرد قبل أعوام. وقيل أن كلفة إعادة البناء تبلغ مليون دولار. وقيل يومها أيضاً أن الطائفة تتطلع الى ترميم مقبرة اليهود الموجودة في منطقة السوديكو. وقُصد بها المقبرة التي دحرجها الطوفان البارحة.

يبدو أن الطائفة اليهودية لم تقم لا بالبناء ولا بالترميم. والشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت- سوليدير لم ترمم هي أيضاً لأن المباني الدينية في وسط بيروت رممت من قِبل طوائفها. “حزب الله” سُئل يومها عن رأيه في إعادة ترميم الكنيس اليهودي في بيروت فجاء الردّ: لا علاقة لي بهذا.

من له علاقة ومن لا علاقة له؟

سؤالٌ باخ اليوم بعدما دحرج طوفان لولو عظام الراقدين اليهود في جنبات بيروت.

فارس سعيد، النائب السابق، علّق على الموضوع بزقزقة: “كما يحق للإنسان بالحياة يحقّ له بقبر الى أيّ دين انتمى”. سعيد طالب بإعادة بناء مقابر اليهود على طريق الشام معتبراً أنها مسؤولية بلدية بيروت.

مقابر اليهود ذكرتنا بقصة الطائفة اليهودية في لبنان وقصة الطائفة اليهودية و”لولو” والعواصف والطوفانات ذكرونا بأن الطبيعة تظلّ أقوى من كلّ شيء!

قصة يهودي «طار»!

قصة من قصص اليهود روتها الصحافية ندى عبد الصمد في كتابها «وادي أبو جميل» عن أحد قبضايات بيروت واسمه أبو عمر سلمون وفيها: يعقوب هو واحد من قبضايات اليهود، أو هكذا يحب أن يقدم نفسه، فقد لازم لسنوات نادياً لكمال الأجسام في منطقة مارالياس في بيروت حيث مارس هواية رفع الأثقال حتى عرض كتفاه وانتفخ زنداه وصدره (…) وكان يعقوب يبدأ يومه المهني بزيارة لشريكيه، بائعي التذاكر في صالتي روكسي ودنيا ليطلع على أحدث البرامج واحتمالات الإقبال. وحين يفرغ من بيع البطاقات يعود الى وادي أبو جميل لمتابعة حركة الشارع. ويقف في الزوايا مع رفاق له للمراقبة. فهو لا يحبّ دخول الغرباء الى المنطقة ولا سيما أولئك الذين يأتون من خارج الوادي لإغواء بنات اليهود (…) وفي إحدى المرات عندما لاحظ وجود ثلاثة غرباء، دخلوا بين المتنزهين ثم خرجوا مع ثلاث فتيات يهوديات، باتجاه كورنيش البحر في منطقة النورماندي، لحق بهم مع إثنين من رفاقه. وعند وصولهم الى نصب الجندي المجهول قرب فندق النورماندي في منطقة الزيتونة قرب البحر قطعوا عليهم الطريق وصرخوا في وجوههم بأن يتركوا الفتيات لأن بنات اليهود لا يخرجن مع غرباء للتنزه.

سلمون، الذي كان يُحب التشبه بالبيارتة، لام يعقوب. وكان سلمون يضع الطربوش التقليدي ويمشي بقامته الطويلة وكان أصدقاؤه يشبهونه بقبضايات البسطا. وكان يحب التاريخ ويكرر رواية «إضطهاد الكاثوليك لليهود بعد انهيار الدولة الإسلامية في الأندلس. وكيف ساووهم بالإسلام وذلوهم بعد أن عوملوا معاملة اللاجئين وأجبروا على المغادرة… وكان يُخبر عن وجود مقابر لليهود في الشوف قرب نهر بسري تعود الى 2000 عام ويقول ان أهالي الجبل يسمون تلك المنطقة الصخرية بمقابر اليهود.

سلمون ظلّ يتحدث عن وجود كثيف لليهود في الشوف سابقاً، فكثيرون في الأصل من بلدة كفرنبرخ الشوفية، وآخرون هم من بيت الدين ودير القمر حيث يوجد كنيس في قلعتها القديمة بني في القرن السابع عشر الميلادي. وقد شُيّد لتمكين أبناء الطائفة من أصول جبلية وشوفية من ممارسة شعائرهم. وهذا الكنيس أثري وقديم قدم القلعة في الدير.

وتتابع ندى عبد الصمد رواية القصة بقولها: ان ارتدادات قرار تقسيم فلسطين عام 1949 تصاعدت. لم يطمئن أبو عمر سلمون لهذا التطور. وأخبر شلته أن انعكاسه سيبدأ بالظهور سريعاً في لبنان. ثم، بعد أيام وجيزة، تحول نقاش أبو عمر مع شلة الاصحاب الى الأزمة السياسية في لبنان بعدما تعاطت السلطة اللبنانية بتوجس إزاء الحكم الجديد في سوريا ولم تعترف به إلا بعد شهر على الإنقلاب. وذهبت الأمور الى مزيد من التأزم بين مؤيد للحكم الجديد ومن بينهم الحزب السوري القومي الإجتماعي ومعارضين للحزب على رأسهم حزب الكتائب. ثم تطور الوضع الى اشتباكات… قصد أبو عمر البسطا وأخبر أصحابه في البسطا خوفه من المستقبل. فالتطورات في المنطقة تنبئ بصراع لا نهاية له، ما يجعل من بقاء اليهود في لبنان ضرباً من الجنون. لم يوافقه الأصدقاء الرأي ونصحوه بعدم التسرع في اتخاذ قرار المغادرة فالأحداث عابرة والأمور ستستقيم حتماً.

تردد أبو عمر الى حلقة الأصدقاء في البسطا تراجع. وبات هذا الصديق اليهودي في مزاج مختلف تماماً وكأنه اتخذ قراره وبدأ الإجراءات العملية للرحيل.

مضت أسابيع من دون أن يظهر أبو عمر. ارتاب الأصدقاء وقرروا إرسال من يسأل عنه علّه مريض. إقترب السائل- الموفد من كمال صاحب محل السمانة على زاوية بناية غندور مستفسراً عن عنوان منزل «خواجه سلمون» فنظر إليه كمال وأشار بيده واستدارة في العيون الى أعلى تشير الى أنه «طار».

وآخر ما اشتراه من محل السمانة كان علبة الدخان الطاطلي بخمسة قروش. أبو عمر سلمون لم يظهر مجدداً. ولم يعد أحد يسمع عنه شيئاً سوى أنه ربما غادر ليعمل في الإذاعة الموجهة الى العالم العربي والتي أصبحت في ما بعد إذاعة إسرائيل.

على لوائح الشطب

الزمن ليس زمن انتخابات لكن لا ضير أن ننطلق من لوائح الشطب لتبيان الأرقام.

كان عدد اليهود على لوائح الشطب اللبنانية العام 2018: 4711 إسماً يتوزعون على الشكل التالي: 4489 في ميناء الحصن. 71 في زحلة. 48 في الشوف وعاليه. 42 في بيروت الأولى. 34 في طرابلس. 18 في المتن. و9 في صيدا.