IMLebanon

صقور العونية خارج القُمقُم.. في وجه التسوية

كتب عمار نعمة في “اللواء”:

بعد مرحلة صعبة تلقى خلالها الضربات الشعبية والمعنوية المؤلمة، ها هو رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل يظهر وتياره من جديد في الساحة مُستلمين زمام المبادرة.. وإن من وراء الكواليس.

تدرجت عودة باسيل الى الواجهة، وإن من وراء الستارة، عبر مراحل عدة، كانت سمتها الأساس إسترجاعه المبادرة على الساحة المسيحية بعد أن فقدها لأسابيع عدة في الشارع. هي لم تكن معركة عادية ولن تكون، فقد عكس رئيس «التيار الحر» ما يضمره من نية في الدفاع عن مكتسباته عبر حرب وجود شن عبرها هجوما عكسيا بالنيابة عن «العهد القوي» والرئيس ميشال عون.

لم يأت هذا الهجوم الباسيلي من فراغ. خلال فترة الأيام الماضية، حصل نقاش جدي وعميق في صفوف التيار حول الخيارات التي أدت بالتيار الى أن يتلقى صفعة معنوية كبيرة، ناهيك عن الضربة الشعبية له مع استهداف عون وباسيل من قبل انتفاضة الشارع. وبجردة الحساب تلك، تبيّن للمعنيين في التيار ولباسيل خاصة، أنه بعد تمنع زعيم «تيار المستقبل» الرئيس سعد الحريري عن الحل المأمول من قبل التيار والثنائي «حزب الله» و«حركة «امل»، فمن الأهمية بمكان رسم معالم المرحلة المقبلة التي يبدو أنها لا تأتي على مقياس الحريرية، دوليا وإقليميا ومحليا.

والواقع أن العلاقة مع الحريرية، حسب قراءة البعض في التيار ممن يوصفون بـ«الصقور»، باتت عامل سلب لمكتسبات التيار أكثر من كونها تعزيزا لوحدة وطنية مأمولة أو دعما لمشروع باسيل في الوصول الى رئاسة الجمهورية. والواقع أن «التسوية الرئاسية» في العام 2016، التي أبرمها حينها العماد ميشال عون مع الحريري، لم تكن حاصلة يوما على إجماع كامل في «التيار الحر».

لا يمكن نكران دور الحريري في وصول العماد عون الى الرئاسة، وهو أمن له الغطاء السني اللازم، وخاض سجالا كبيرا مع شارعه السني المحبط من انكساراته في لبنان والإقليم، لكي يقنعه على مضض بجدوى هذا الخيار. فالحريري كان في حاجة ماسة الى سلام داخلي يوفر له الدعم والحماية، وهو حصل على رعاية شخصية و«أبوة» أحيانا من قبل عون خلال أزمته في السعودية.. وهو جاهر طويلا بعد أن تراجع شعبيا ومالت تطورات الإقليم لغير صالحه، بأن التسوية التي حصلت تفيده بينما «تُحيّد» «حزب الله» عن مواجهته وتحفظ الشارع المسلم من فتنة كانت تستعر في الاقليم.

 

من جهتهم، حصل عون وباسيل و«التيار الوطني الحر» على الغطاء السني اللازم بعد ان ظفر بذلك المسيحي من زعيم «القوات اللبنانية» سمير جعجع، وذلك بعد أن تمكن «حزب الله» من منع أية منافسة له على الرئاسة حتى من قبل غريمه زعيم «تيار المردة» سليمان فرنجية، وقد عمل الحزب على إقناع رئيس مجلس النواب نبيه بري بصوابية هذا الخيار، وإن على مضض..

بدت الأمور وردية بالنسبة الى باسيل، وهو ثبّت صوابية رؤيته في الاجتماعات الطويلة للتيار، وكان من شأن علاقة شهر العسل مع الحريري أنها مكنت الرجلين من تجاوز العديد من المطبات أمامهما في ما بدا تعبيدا لطريق باسيل رئيسا مقبلا للجمهورية وللحريري رئيسا مستمرا للحكومة وزعيما للطائفة السنية.

كان حلفا سلطويا مقدسا، لكن منذ اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول، واجهت العلاقة صعوبات جدية، وبدا التيار كمن لا يملك بوصلة المواجهة ناهيك عن عقم مقاربة التيار والعهد لما جرى.

في الايام الاولى، راهن العونيون على انتهاء الحراك، وخرجوا مع أقطاب الطبقة السياسية بورقة اقتصادية عاملين على تهدئة الجماهير. فشل ذلك. وفوجىء هؤلاء بالحريري مستقيلاً من رئاسة الحكومة. وجاءت ضربة الاستقالة التي اعتبرها العونيون موجهة إليهم وتنصلاً من المسؤولية برغم محاولات كبيرة لثنيه عنها، لتعمق من أزمة العهد. تصاعدت أصوات صقور في التيار لمعاقبة الحريري على فعلته، وبدأت تظهر انتقادات جارحة لشخص الحريري وحديث عن نكرانه لجميل عون وباسيل خلال أزمته في السعودية.

هيمنت تلك الأصوات على المشهد في التيار، والواقع أنها استمالت الرأي الغالب فيه مع ما اعتبرته التفافاً حريرياً مفضوحاً على العهد والتيار.

أدرك باسيل نية الحريري استبعاده، وقد مثّل الأمر انقلابا على ثابتة الحلف المُعمد بنِعم السلطة وغنائمها، والذي كان مقدرا له تكريس رئيس «التيار الحر» زعيماً مقبلاً لطائفته ورئيساً للجمهورية.

يرى كثيرون في «التيار الحر» أن العلاقة مع «المستقبل» إعتمدت في شكل كبير، إن لم يكن في شكل وحيد، على طبيعة العلاقة بين باسيل والحريري. وتعززت مع تعمقها بين الرجلين، وما إن غابت الكيمياء بينهما، حتى أصيبت بنكستها الكبيرة أو الكبرى.

والواقع أنه بعد استقالة الحريري، أراد باسيل إحراجه بإعلانه الخروج من الحكومة، وقد أفاد من خطوة «قواتية»، لها حساباتها المضمرة، أضرت بدورها بزعيم «المستقبل» بعد إعلان عدم المشاركة في حكومة يشكلها.

وجد الحريري نفسه محاصرا وعاريا من ميثاقية مسيحية ضرورية، وبرغم كل محاولات الثنائي الشيعي لاستمراره رئيسا للحكومة، رفض الحريري كل المغريات وخرج من كل التعهدات، ومثّل ذلك دليلا لصقور التيار على عدم وفائه، فأصروا على فك الحلف معه.

 

فجأة، استرجع هؤلاء تاريخ الحريرية معلنين بعد سنوات ثلاث من الحلف المقدس معها أنها نظام اقتصادي وإداري وقضائي وأمني جامع لطوائف مختلفة، أدى بالبلاد إلى المهوار!

بات سقوط الحريرية بكل رموزها في الدولة، وزعيم «المستقبل» هو حجر الزاوية فيها، هدفا للتيار. وساد الحديث حول النظام السياسي والإقتصادي الكامل للحريرية والذي تشكل المرحلة الدولية والإقليمية والمحلية الحالية فرصة ذهبية لإسقاطه.

إنطلاقا من هنا، جهد باسيل لاستعادة المبادرة عبر تثبيت الدكتور حسان دياب رئيسا لها، ويترقب الجميع مجريات تأليف الحكومة بينما يجهد رئيسهم لاقتناص الثلث المعطل بالتشارك مع رئاسة الجمهورية كما في الحكومة الماضية. والواقع أن لدى هؤلاء مخاوف من «تواطؤ» لدى بعض الطبقة السياسية لإرجاع الحريري على طبق شعبي عبر عرقلة عمل دياب في تشكيل حكومته، ليصبح الأول مطلبا شعبيا يعززه حضوره في الشارع.

لكن يسود في التيار حديث حول أن دياب سيقوى على التشكيل، وسيقاوم ضغوط الشارع الخطيرة التي يقوم بها الحريري وخصوم التيار كـ«القوات اللبنانية»، وهو ما لن ينجر التيار إليه، علما أنه لم ينزل إلى الشارع سوى في ما ندر وبدراسة وتأن وانضباط، وهو يعلم أن انفلات الأمور سيؤذي العهد أولا وأخيرا، بينما يجهد لتمرير ما تبقى من ولايته بأقل قدر من الخسائر.

سيكون الهدف الأساس للتيار اليوم تعويض ما فات من عمر العهد الذي فاق نصف ولايته. ولمجاراة الموقف، فمن الأهمية بمكان تشكيل حكومة تؤدي الى صدمة ايجابية تعيد للعهد ثقته بنفسه وثقة الجمهور به. والبداية بنظر التيار ستكون باستغلال الفرصة السانحة عبر تشكيل حكومة على قياس التطلعات العونية تكون قادرة على الإنتاج ومواجهة الانهيار الذي كانت الحريرية أحد مكوناته، وذلك باستكمال ما لم يتمكن من إنجازه من إصلاح خلال وجود أخصام لهم مثل «القوات اللبنانية» في الحكومة.

وأول الغيث سيكون توفير أسماء من ذوي الثقة عبر معيار مختلف عن الماضي يحاكي ما طرأ على البلاد منذ 17 تشرين الأول الماضي. وسيكون ذلك جزءا من مراجعة يجريها العونيون اليوم حول أدائهم في الحكم، في سبيل استثمار ما أدت إليه الاحداث الكبرى الأخيرة في البلاد، مع الإقرار بأنها شكلت رافعة لهم لإجراء هذه المراجعة عبر نفس إصلاحي جديد.