IMLebanon

المندسّون.. وثقافةُ الشَغب والعنف الثوري

كتب أحمد الزعبي في جريدة اللواء:

ما حصل، قبل ولادة حكومة حسان دياب وبعدها، من أعمال عنف وشغب في وسط بيروت، وبعيداً عمن يتحمل مسؤوليته تسبّباً ونتائج وتداعيات، قابلٌ للتوسع والتكرار في ظلّ هشاشة الوضع القائم على كل المستويات وانفتاحه على احتمالات سلبية عدة، لكنه يفرض أسئلة تستحق التوقف عندها؛ هل هو من تكتيكات الثورة كتدرج طبيعي وضروري لتفعيل زخمها؟ هل هو ردّة فعل على تطنيش الطبقة الحاكمة لصرخات الناس في الساحات؟ هل هو من صنع السلطة لاستدراج الثورة إلى العنف والعنف المضاد تمهيداً لتشويهها وخنقها، أم هل هو من فعل مندسين يريدون حرف الثورة عن مسارها وعناوينها كرمى لجهات تريد الاستثمار في الفوضى؟

المندسون أنواع

قبل الإجابة، أو محاولة ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى مسلمات عدة، قد يكون في فهمها مدخل لفهم الإشكالية كونها تمسّ الاستقرار العام والسلم الأهلي، وتمسّ أيضاً ثورة 17 تشرين بوصفها فسحةَ أملٍ مثّلت لكثيرين فرصة استثنائية لاستعادة التوازن إلى الحياة الوطنية، تمثيلاً سياسياً وإدارة عامة، والتي تهشّمت بفعل سوء إدارة الطبقة الحاكمة المكونة من تحالف السلاح والفساد.

أولاً: «الاندساس» للتخريب أو الإفساد ليس في الثورة فحسب، هناك مندسون في الحياة العامة، ومندسون في الحياة السياسية، ومندسون في الحكومة، ومندسون في الأجهزة، ومندسون في الإدارة العامة، ومندسون في القضاء، ومندسون في المصارف.. ولكلٍ واحد من هؤلاء وظيفته ودوره التي تليق بالصفة وحاملها.

ثانياً: مع أن البلد منشغل بالحكومة الجديدة، ترحيباً ومعارضة وتريثاً واستغراباً وصدمة وذهولاً، التي «اندسّ» أعضاؤها في المشهد المأزوم. تبدو الفروق بين هذه الحكومة بصيغتها التي خرجت عليها، وبين تلك التي روّج لها الرئيس دياب بُعيد تكليفه «قليلة» لكنها معبّرة. هو تحدثَ عن حكومة رشيقة من 18 وزيراً، فخرجت عشرينية! وتحدث عن تكنوقراط – مستقلين، فخرجت موزعة حصصاً على أحزاب الثلاثي الحاكم! وتحدث عن حكومة خالية من وجوه التي سبقتها، وخصوصاً تلك الاستفزازية، فخرجت مزدانةً بأشباحهم ومساعديهم وأدواتهم! وفي كل ذلك ألفُ سبب للعودة للشارع والتعبير بكل الأشكال توسّلاً لإسماع من شكلوا هذه الحكومة رأي الشعب فيها.

ثالثاً: إن أداء الطبقة السياسية الحاكمة، الفاشل والفاسد والتخريبي، لا شيء غيره هو من أوصلَ غضب الناس إلى درجة الكفر بالدولة بوصفها باتت عصا غليظة للقمع وعنواناً للإفلاس والتجويع والترويع. هذه الطبقة «الفنانة» أذكى وأقوى وأعقد وأعمق من أن تسقط بفعل خروج الناس لسحب الشرعية منها وعنها ولإعلان فضحها وانكشاف زيفها ولعبها على التناقضات التي أوصلت البلد للإفلاس والفشل، وربما لاحقاً إلى الانهيار فالحرب الأهلية.

إن النظام الذي تتحكم به هذه الطبقة يملك من الإمكانات والأدوات، الأمنية والسياسية والحياتية والإعلامية والمالية، ما يجعله قادراً على الدفاع عن بقائه واستيعاب صدمة انكشافه أمام الرأي العام، وعليه فإن كل الاحتمالات واردة في أساليب ردة فعله. واحدةٌ من هذه الأدوات هي اختراق الثورة، في ساحاتها أو في جمهورها، أو حتى في المزايدة على أنقى تلاوينها في المطالب والانتقادات والشعارات، أو من خلال التعبير المبالغ به في الرفض والاعتراض لدرجة التخريب والاعتداء على الأملاك العامة والخاصة ومواجهة قوى الأمن. ما يعزز هذا الاتجاه أن الاتهامات التي أطلقت بُعيد غزوة شارع الحمرا ولاحقاً وسط بيروت، بحق مكونات مناطقية أو سياسية وكادت تؤدي إلى مَذهَبَة العنف كانت مجرد تكهنات يمكن حسمها ببساطة لأن وجوه من قام بها كانت مكشوفة، والكاميرات أكثر من الناس وعديد قوى الأمن كبير أيضاً، ولا شيء كان يمنع من توقيف مفتعلي الشغب لمعرفة حقيقة ما جرى، عفوياً أو مخططاً له، من دون اللجوء إلى نشر الشائعات والاستثمار فيها من قبل الانتهازيين والمتربصين.

مندسو الأحزاب

رابعاً: لا عجب إن قيل، والحال هذه، أن جزءاً من الحراك أداة بيد بعض الأحزاب، تلجأ إليه السلطة من خلال زرع المندسين للتخريب والتشبيح والاعتداء، وقد بات معلوماً أن حزباً فاعلاً أوغلَ بكيل الاتهامات للانتفاضة في بداية انطلاقتها تسللَ إلى داخل الحراك، بعدما فشل في شيطنته وبعدما أيقنَ أن غالبية المزاج الشعبي معه، وقد زرع خيماً في إحدى ساحات وسط بيروت لاختراق الثورة، ومن مهام مجموعاته تأدية أدوار ذات طابع ترويعي وأمني وتخريبي بين حين وآخر.

خامساً: لا شيء يمنع أن يكون الخللُ في صفوف القوى الأمنية نفسها التي تشهد تخبطاً وتناقضاً وازدواجية في التعامل مع الحراك، خصوصاً مع انطلاق الانتفاضة. هذا النوع من الخلل شائع وأهدافه معروفة وفي العالم العربي شواهد كثيرة عنه. هذا الأمر، وهو احتمال في سياق التحليل، لا يعني أبداً التشكيك أو عدم تقدير الدور المهم والضروري الذي تضطلع به القوى العسكرية والأمنية والتعويل عليه لصون الاستقرار وحماية حق التظاهر والتعبير عن الرأي، خصوصاً وأن إحدى شرارات الانتفاضة الأولى أشعلها المتقاعدون بعدما أوغلت السلطة في نهب حقوقهم.

سادساً: لا يخفى أن مجموعات عديدة من الانتفاضة تناهض توسّل العنف والشغب خشية من الانزلاق نحو الفوضى وهزّ الاستقرار، وهذه المجموعات كانت وما تزال ترسم علامات استفهام كبرى حول عمليات قطع الطرقات في مناطق محددة، الشمال وعكار خصوصاً، بشكل عبثي وعشوائي ومُبالغ به ويهدف إلى إيذاء الناس أكثر منه إلى الضغط على السلطة، وهذه الشريحة تعتبر أن جزءاً من الشغب الذي حصل قبل ولادة الحكومة كان يهدف إلى الضغط على دياب من قبل الفريق الذي سمّاه لترهيبه واقناعه بالسير بمطالب وأجندات معينة أو دفعه للاعتذار.

الشارع مهم ولكن

سابعاً: ثمة مخاوف من كل حريص على انتصار الثورة ووصولها إلى أهدافها، من أن يكون العنف والفوضى مدبراً، بخبث أو بحسن نية، من خلال الاستثمار في بؤس المحرومين ووجع الغاضبين في مناطق محددة أو اللعب على نغمة التفاوت الطبقي وسِجالات الريف – المدينة، واستعمال ذلك وقوداً للتخريب. الشارعُ مهم، وأداةُ ضغطٍ رئيسية لكن له حدود ولا يمكن تحميله ما لا يطيق، خصوصاً إذا كانت الأثمان باهظة كالتي دفعها ضحايا الرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع في عيونهم وعلى أجسامهم.

في المحصلة، مع ولادة حكومة بدا أنها أقل بكثير جداً مما توقعه أكثر المتفائلين، وهي حتماً أقل بأشواط مما تتطلبه المرحلة الصعبة لبلد يراوح بين الفوضى والانهيار؛ يتكشفّ المشهد الوطني عن مزيد من السقوط إلى قعرِ القعر؛ شعبٌ تائه ومفلس وشبه جائع، يجري إذلاله بطريقة خبيثة على أبواب المصارف وأمام محطات الوقود وفي المراكز التجارية، وفي طريقة إدارة شأنه العام ومصالحه وتحدياته.. الطبقة السياسية استوعبت، أو هكذا تدّعي من خلال أدائها، صدمة ثورة 17 تشرين بعد نحو مائة يوم على انطلاقتها، وها هي عادت، بوقاحة، إلى سياسة المناورة والمحاصصة وتوزيع المغانم والنفوذ وإن باسماء وواجهات جديدة ظناً منها أن الزمن لم يتغير. حتى بأسوأ الكوابيس هل كان يتوقع أحد أن يكون جبران باسيل (ما غيرو) أكبر الرابحين من كل ما جرى؟ هكذا، ولكل ذلك، ثمّة ما يَستحق أن يَخرج الناسُ لأجله ثائرين لا مندسين