IMLebanon

“المئوية” الأولى للانتفاضة: بين إنجاز الحكومة ومسؤولية الحراك

كتب عمّار نعمة في صحيفة “الأخبار”:

بعد أكثر من 100 يوم على إنتفاضة 17 تشرين الأول، تبدو الصورة أعمق لناحية فهم هذه الظاهرة وإنجازاتها التي يعد تشكيل الحكومة أهمها، بينما بات من الضروري التوقف عند سلبيات إعترتها من شأنها تشويه إنجازاتها.. وصولا الى تهديدها مباشرة.

الواقع أن معظم ما تحقق حتى الآن هو في الإطار النظري الذي يؤسس لما هو مقبل، وقد سبق للإعلام أن تناول طويلاً إنجازات حققتها الانتفاضة خلال الاسابيع الماضية. لكن في هذه اللحظات، وبقراءة موضوعية لما توصل إليه المنتفضون، يمكن القول إن تشكيل الحكومة الجديدة هو آخر، ولعله أهم، الإنجازات. وهو إنجاز يكتسب أهمية متمادية من كونه لم يحصل على رضا الثوار، وهذه مفارقة تكشف جذرية متشددة لهؤلاء وجديّة مطلقة لم يتوقعها كثيرون منذ بدء الثورة.

وللمناسبة، عندما نتحدث عن مصطلح الثورة، فليس بالضرورة الاشارة الى طبيعة تحركات المنتفضين وعنفهم على الارض، ذلك أن الكثير من الثورات عبّرت عن نفسها بما حققته بعد اندلاعها من تغيير كبير وأحيانا جذري للواقع السابق عنها. من هنا، وإن كان الحراك الشعبي الذي انطلق مجسداً غضباً عارماً على واقع كارثي للبلاد، قد شدد على «ثورويته» محاكيا ثورات الماضي البعيد والقريب، فإن معظم المراقبين لا يخرجون بتوصيف معيّن لهذا الزلزال الشعبي.

على أن التوصيف ليس مهماً اليوم، فالحراك سيكتسب رمزيته من إنقلابه على واقع مزدري لينقل البلاد الى زمن جديد. أما لناحية تحقيق الاهداف، فهو من دون شك يعد، كما في أية ثورة أو إنتفاضة، فعلا تراكميا سيتخذ سنينا وقد تتواتره أجيال مقبلة بعد أن أسّس لكسر في المحرمات وخرق لهيبة سلطة متوالدة ومتوارثة إحتقرت اللبنانيين طويلا قبل أن يؤمنوا بأنفسهم ويسترجعوا كرامتهم المهدورة.

تحت هذا العنوان، تحقق الكثير عبر محطات خضعت عبرها السلطة وكان من شأنها تشكيل إرهاصات تأليف الحكومة اليوم الذي لن يكون طبعا آخر ما سيتحقق في مسار سيكون طويلا.

وبمقاربة متجردة لما حدث منذ مئة يوم حتى الان، في مقدورنا القول أن فترة الاسابيع الاخيرة قد أحدث تغييرا في وجه لبنان. وبعد أن بدأت الانتفاضة تحت شعارات معيشية، سرعان ما تحولت سياسية مطلبية كون خلع الطبيقة السياسية يعد المدماك الاول للانتقال نحو مرحلة الدولة.

وقد نضجت مطالب المحتجين من إسقاط النظام برمته، وهو الأمر شبه المستحيل، الى مواجهة التحالف السلطوي السياسي والاقتصادي الحاكم منذ أكثر من ثلاثة عقود، ثم نحو إسقاط الحكومة السابقة، وهو ما حصل. لكن الأهم كان في طرد الخوف من النفوس، وإسقاط خطوط التماس المدمرة للبلاد والتي أنتجتها أحزاب الطوائف، عبر انتفاضة جامعة لكل الفئات والمناطق، وإن في شكل نسبي.

برع المنتفضون في تكريس فكرة لم تكن سائدة في السابق: المعركة ليست حرباً بين الطوائف، هي بين سلطة متنازعة في ما بينها، ومتآمرة بتجمعها الفضفاض في وجه الناس، من ناحية، وبين الشعب نفسه من ناحية ثانية، الذي توحده المعاناة التي لا تفرق بين أحد.

قضايا المرحلة

اليوم، وبعد إنجاز تشكيل الحكومة، من الطبيعي أن لا تنتهي معركة الحراك، فالتراجع في هذه اللحظة سيوفر فرصة لثورة مضادة قد تتخذ طابعا سلطويا أو عبر المستفيدين من هذه السلطة في الشارع، وهو ما يحدث بين الحين والآخر ويتخذ شكلا عنيفا وحاقدا وطائفيا.

ومع رفع الحراك الرفض الشعبي وعنوان إسقاط الحكومة، فهذا لا ينفي عن الثورة إنجازها. وستبقى الشعارات السابقة التي وجهت نحو الحكومة السابقة، موجهة بدورها نحو الحالية ومعها طبعا المجلس النيابي الذي يعد مصدر السلطات الآن.

وبينما سيبرز المطلب بالغ الأهمية المتعلق بإجراء انتخابات نيابية مبكرة على أساس قانون انتخابات عادل وحديث قائم على النسبية والدوائر الكبيرة، سيلقى هذا الأمر بالطبع رفضا من قبل من هم في الحكم كونه سيعريهم ويضرب وجودهم.

وسيرفع المنتفضون، حتى تحقيق هذا الأمر، مطالب أساسية مثل إستقلالية القضاء واستعادة الأموال المنهوبة. وفي موازاتها حماية الطبقة الدنيا والمتوسطة وإيداعاتها البنكية، بالتزامن مع استهداف رؤوس الاموال الكبيرة وفرض الضرائب عليها وفرض ما طالب به كثيرون منذ التسعينيات وهو قانون ضريبي تصاعدي، وصولا الى ترسيخ الاقتصاد المنتج غير الريعي وضمان صحة اللبنانيين والمعدمين منهم على وجه الخصوص.

لكن كل ذلك يفترض الانطلاق من تشكيل حكومة ذات طابع جديد لاعتباره بمثابة الانجاز، وعدم تجاهله كما تم تجاهل الورقة الاصلاحية التي خرجت بها الحكومة الماضية والتي احتوت على إنجازات هي الاولى من نوعها في التاريخ اللبناني.

وفي موازاة إعطاء الحكومة الفرصة، يجب على الحراك البقاء في الشارع وتشكيل ما يمكن اعتباره مجلس نواب مواز أو حكومة ظل في وجه من عرّتهم الانتفاضة من شرعيتهم الشعبية، وهذا الأمر قد يتخذ أشكالا عدة وعناوين شتى.

السلمية ونبذ العنف

في المقابل، تبدو الثورة أمام امتحان الحفاظ على نقائها السلمي ولفظ مثيري الشغب خارجها. ويترابط هذا الامر مع رفض أي تدخل من قبل الاحزاب والتيارات السياسية فيها. وهذا لا يعفي بعض من في الحراك أنفسهم من خروجهم على مبادىء الثورة وتحركهم بعنف في الشارع واعتدائهم على الممتلكات العامة، وفي جعبة تلك المجموعات الكثير من العنف التصاعدي بعد أن اعتبرت أن السلطة صمّت آذانها عن سماع الناس واعتبارها أن ما حصل في 17 تشرين الأول ليس حدثا مزلزلا في البلاد.

كما يجب على الحراك العمل أكثر على تنظيم الذات وتجاوز الانقسامات الحاصلة بين مكوناته، وهي انقسامات تبدو شخصية أكثر منها مبدئية. ومثلما فعل الحراك في وجه السلطة عندما خرجت الجموع عن سيطرة الأحزاب، يحصل الأمر نفسه بين مجموعات الحراك التي أطلقته، وجموع شبابية لا تكترث لما يتخذ المؤسسون من قرارات، ما يعني أن مجموعات الحراك، بعد أن وجهت الناس في وجه السلطة، بات عليها الالتفات الى نبض الشباب وإلا فستلقى المصير نفسه.

وبينما سيكون على الحراك استيعاب أي تحرك باتجاهه من قبل تيارات في أحزاب السلطة، أو الأحزاب نفسها ربما، تبدو استقلاليته أولوية، ومجموعاته تعلم جيدا أن المرحلة المقبلة ستشهد تداخلاً بين معارضة شعبية من قبل الحراك للحكومة، وتلك السياسية التي ستقوم ضدها من قبل بعض من هم خارجها أو من قبل الطامحين لأدوار مقبلة أو من قبل مندسين (وهذا حاصل اليوم).

 

وعلى صعيد الوسائل، يبدو بعض من في الحراك يتجه الى ابتكار وسائل جديدة، وهي ستكون يومية وفقا للتطورات السياسية، أو بمعنى أدق، تبعا لغباء من في السلطة. ومن يتابع مجريات الأمور في المراحل السابقة يستشف بسهولة أن الثوار لن يواجهوا صعوبة في حشد الأنصار نتيجة أفعال أو تصريحات سيخرج بها من هو في السلطة أو نتيجة عنفها واعتقالاتها.

هي مسؤولية كبرى على الحراك بعد التضحيات التي قدمها ليخرج بها من فوضى إعترته جاء جزء منها بتآمر بعض من في السلطة الذي يريد شيطنة الحراك ومنع تنظيمه، بغض النظر عن إنجازات يحققها سريعا أو معوقات تواجهه كما حصل أمس الاول عبر فشله في منع جلسة الموازنة.

فرصة ذهبية

أمام كل هذا، تبدو الحكومة إزاء مسؤولية تاريخية. الكل يعلم أن ليس في يدها عصا سحرية لحل الأمور سريعا، وقد يتطلب الامر قرارات صعبة وتاريخية يجب على الجميع، بمن فيهم الثوار، تفهمها. لكن التحرك سريعا يبدو حاجة ماسة في ظل وضع اقتصادي كارثي عبر صراع مع الزمن، والكل يعلم أن الوضع الاجتماعي اليوم هو أسوأ مما كان عليه حتى قبل اندلاع الانتفاضة.

هي فرصة ذهبية للحكومة، وهي التي جاءت إستجابة لنبض الشارع كما قيل، للإفادة لا بل الاستقواء بالناس، بعد حصولها على الغالبية النيابية، لإحداث الكثير مما هو مطلوب لا سيما مكافحة الفساد ومحاكمة السارقين للمال العام.

وفي حال نجاحها، ولو جزئيا، سيشكل ذلك صفحة جديدة للحكم في لبنان، علما أن بعض من في الحراك مستعد لمجاراة إيجابيات قد تقدمها السلطة وخاصة إذا حددت تاريخا للانتخابات المبكرة مثلا.

وبهذا، يمكن للسلطة حينها سحب البساط من المجموعات الراديكالية الرفضية في الحراك وعزل من يمارس العنف، خاصة وأن الموضوع يجب العمل عليه في مدى زمني متوسط الأمد وليس قصيراً.