IMLebanon

معتقلو الثورة.. وقودُ استمرارهـا

كتب أحمد الزعبي في صحيفة “اللواء”:

تكاثرت خلال الأسبوع الأخير، وهو بالمناسبة الأسبوع الخامس عشر لتاريخ 17 تشرين، الظواهر الأمنية الضاغطة بهدف إنهاء الانتفاضة أو محاصرتها، كاستدعاء الناشطين والتحقيق معهم، أو توقيفهم على خلفية مشاركتهم في التحركات الشعبية والمطلبية، بحجة ممارسة أعمال عنف أو تخريب الممتلكات أو هزّ الاستقرار وغيرها، وهي عناوينُ فضفاضةٌ وملتبسة، يمكن أن تُستخدم لاحتجاز حريات الناشطين دون مبرر، أو رميهم في دوامة إجراءات تبدأ ولا تنتهي!

وإذا كان من نافل القول أن الدستور يحمي حقّ التعبير والتظاهر، خصوصاً إذا كان لاعتبارات وطنية جامعة، فإن في طريقة ردّ فعل السلطة ما يؤشّرُ إلى اعتمادها الحلّ الأمني واستخدام القضاء عصاً غليظة لتأديب معارضيها، وتعذيبهم وإذلالهم فضلاً عن إنهاء ثورتهم. واضحٌ أن السلطة مذعورة، مربكة ومفلسة، لكنها تتظاهر بامتلاك المبادرة؛ أما حكومتها التي تدرك حجم عزلتها، عربياً ودولياً، فتمخضت عن بيان وزاري متضخّم، بدا أنه من كل واد عصا؛ لا أفق، لا جديد، لا حلول. إفلاسٌ وجوعٌ وعزلةٌ وفوق ذلك مكابرةٌ ومزايدات وتفشيخ وبيع للوعود لكسب الوقت، لكن في الوقت عينه تصرّ على «الانتصار» على الناس، على الشعب، على ثوار الساحات قمعاً وتضييقاً لأنهم يمثلون «كابوساً» ينذر بإنهاء سطوة طبقة متحكمة.

 

شيطنةُ ناشطين وأَسطَرَةُ آخرين!

في المقابل، تبدو الانتفاضة في يومها الحادي عشر بعد المائة ثابتة بالرغم من ضخامة التحديات، وقد زادت قناعةُ الشعب بقوة تأثيره، وفعالية تحركاته، وأيضاً بفساد السلطة وفضائحيتها، وضرورة العمل على إنهائها ومحاسبة رموزها. وما بين عين ترصد البيان الوزاري ذي الوعود المنتفخة وجلسة الثقة وتطورات الملف المالي والسعي لكشف ملفات الفساد والمتورطين فيها، ترصدُ عينٌ أخرى أبعاد وخفايا ملف التوقيفات، خصوصاً وأن بعضاً منه يبدو كرسائل ترهيب أو تصفية حسابات.

تتعدد الروايات حول تفاصيل وخلفيات وظروف وأسباب توقيف كل ناشط، ثم طريقة التعامل مع ملفه، ثمة خيط رفيع بين «كرّ وفرّ» معتاد بين ناشطين وأجهزة أمنية، وهو أمر شائع ومعروف وطبيعي في كل بلاد العالم التي تشهد تحركات شعبية يفترض أنها تخضع لموجبات حرية التعبير والتعهّد بعدم التخريب، وبين تصفية حسابات تراوح بين تضخيم هنا وأَسطَرَةٍ هناك، وتفوح منها رائحة لا تمت إلى الانتفاضة ونقائها بصلة.

حرية التعبير مصانة بالدستور، ومن باب أولى أن يكون كل تحرك لفضح المرتكبين وناهبي المال العام، وسحب الشرعية عن السلطة الفاسدة وسياسات الإفقار والتجويع، محمياً أيضاً بسقف القانون، إلا إذا ارتأت الدولة ملاحقة من نزل إلى الساحات فإنها ستضطر إلى توقيف أكثر من مليون لبناني حملوا علم بلدهم وهتفوا ضدّ الفساد ورموزه، صرخة موجوع وغاضب.

الحديث عن توقيف الناشطين، يقود بالضرورة للحديث عن الاختراقات كأحد تحديات الانتفاضة، والرابط بينهما ان جزءا من الموقوفين الذين سبق أن ضجت الحناجر بالقول إنهم تسببوا بتشويه الثورة وإيذاء جمهورها وممارسة أعمال بلطجة وقطع طرقات وتخريب مشبوهة، وتحوم حولهم روايات كثيرة لناحية تأديتهم مهمات قذرة لمصلحة جهات تريد الإساءة للانتفاضة، هؤلاء لا يعدو توقيفهم «المؤقت غالباً» تصفية حسابات وزكزكات بين الأجهزة، أو بين أجهزة وقوى الأمر الواقع لا أكثر. ما السرّ بتحريك آليات ضغط قانونية وإعلامية وشعبية رداً على توقيف شخص مثلاً تتضافر التأكيدات بأنه «يثور» بوحي وإشارة، لدرجة ان الأنظار باتت «مخطوفة» أيضاً لهذا التوقيف المتضخّم الذي عادةً ما يعقبه إفراجٌ فتوقيف جديد فإفراج.. أكثر من تطورات الثورة بحدّ ذاتها؟ ثم لمصلحة من تضخيم أسماء معينة هي موضع تساؤلات على حساب ثورةٍ نجومها شبابٌ وشابات، أمهاتٌ وآباء، فنانون ومبدعون، متخصصونَ وخبراء، مظلومونَ وغاضبون.. وعلى حساب ناشطين سلميين مدنيين كاد أن يمرّ توقيفهم كلحظة عابرة لولا تحرك مشهود قاده نقيب المحامين ملحم خلف أكثر من مرّة.

وشايات أمنية باسم الثوار!

وطالما الشيءُ بالشيءِ يُذكر، فإذا كانت الأجهزة الأمنية والعسكرية تمتلك من العَديد، والوقت، والقدرة، والنباهة والتيقظ لملاحقة من نزلوا للشوارع طلباً لمحاسبة الفاسدين، ولم تستطع، في المقابل، توقيف فاسد واحد (واحدٍ فقط لكسر عين مئات الآلاف ممن نزلوا للساحات)، فثمة أفكار، يمكن اعتبارها «وشايات» أمنية للصالح العام، نقدمها باسم المنتفضين في الساحات والشوارع والمناطق على أمل أن تتحرك الأجهزة – الأمنية والقضائية – لمتابعتها، بوصفها جرائم تطال السلم الأهلي والأمن الاجتماعي والحياتي والمالي، لا بل تقارب أن تكون جرائم جماعية لاستهدافها غالبية الشعب عن سبق الإصرار.

 

عليكم بناهبي المال العام وموارد الدولة من كل من تولى مسؤولية عامة فسخرها لمصالحه الخاصة، عليكم بالمتلاعبين بودائع المواطنين، صغار المودعين تحديداً، الذين نهبوا الأموال وجنى الأعمار ثم راحوا يُمعنون بإذلال الناس على أبواب المصارف. عليكم بمافيا الصرّافين الذين حوّلوا البلد إلى طاولة روليت كبيرة لأطماعهم وجشعهم -أغلب الظن بالتواطؤ مع رعاتهم -، عليكم بالذين يشنون حرباً معيشية على المواطنين، الذين ما إن حلّت الكارثة حتى انطلقوا يمارسون بفجور الاحتكار والتلاعب بالأسعار، من أصغر السلع الحياتية والغذائية والاستهلاكية إلى أعلاها، علماً أن الزيادات الحاصلة لا تتناسب حتى مع فرق زيادة سعر الصرف، بمعنى أن بعض السلع الضرورة زادت بنسبة تفوق 60 بالمئة! عليكم بكارتيلات مشتقات النفط، البنزيت والمازوت والغاز، وبالمتلاعبين بسعر الرغيف ووزنه، بالأدوية وبضروريات الحياة ولوازم البقاء، وبكل المتلاعبين بآلام وأوجاع وحيرة الناس.. «كلن يعني كلن».

الظلم وقودُ الثورة

مائة وعشرة أيام كاملة، لم تدرك السلطة المتحكمة، سلطةُ تحالف السلاح والفساد، أن الاعتقالات والتوقيفات والملاحقات والعنف والرصاص المطاطي والقنابل الدخانية.. تماماً كالقهر والظلم والفساد والنهب والشعبويات والمحاصصة والسمسرات والمحسوبيات والزبائنية… كلها جميعاً وقود للثورة، وإكسيرٌ لبقائها واستمرارها، لا العكس.

في كل يوم، ومع إشراقة كل صباح تثبت هذه الحكومة أنها تستحق أن ينزل الناس للشوارع والساحات لسحب الثقة عنها حتى قبل مثولها أمام برلمان بات مجرّداً من شرعيته وتمثيله.

باختصار شديد، لأنها ثورةٌ لاستعادة السيادة، وأيضاً لنيل الكرامة الانسانية وحقوق المواطنة التي ضيعتها طبقة سياسية في إطار ما نهبته من مقدرات وآمال وأحلام أيضاً.. ماذا يُنتظر من سلطة وحكومة تلاحق المنتفضين والثائرين والموجوعين بدل ملاحقة الفاسدين والمرتشين وناهبي المال العام ومدخرات الناس، وسارقي مقدرات البلد؟