IMLebanon

التحويلات المالية “قنبلة صوتية”… ما معيار المشبوه وغير المشبوه؟

كتبت غادة حلاوي في “نداء الوطن”:

ما إن أعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري عن أن “أصحاب خمسة مصارف كبرى هرّبوا ما يصل إلى مليارين و300 مليون دولار إلى الخارج”، حتى تحرك المدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم فاجتمع مع لجنة الرقابة على المصارف، طالباً إليها تقديم “العديد من التوضيحات والتفسيرات، خصوصاً لجهة شرعية أو عدم شرعية الأموال المحوّلة”. ما يعني أنّ المطلوب قضائياً من المصارف أن تقدم شرحاً مفصلاً الى الهيئة القضائية المعنية حول المبالغ التي حولت وأسماء محوّليها. لكن عملياً لا توجد سلطة سياسية ولا قضائية على المصارف. وأثبتت الأزمة الراهنة أنّ المصارف حكمٌ قائمٌ بحاله، عصيّ على المحاسبة حتى القضائية. أكثر من بند يؤمّن حماية المصارف، ليس أولها قانون السرية المصرفية التي باتت تختبئ خلفه كل المخالفات المالية من دون حسيب أو رقيب، الى عدم وجود نص قانوني يؤمن مراقبة قطاع المصارف أو محاسبته.

ما يشرّع السؤال هل توصل خطوة القاضي ابراهيم مع المصارف الى الغاية المرجوة بحيث نصل الى معرفة أسماء المحولين وتواريخ تحويلاتهم والمبالغ المحوّلة؟

قضائياً، تصعب ملاحقة المصارف على حركة تحويلاتها لعدم وجود مسوغ قانوني بذلك. لا قانون ينص على منع التحويل الى الخارج ولا تحديد لسقف التحويلات. يبدو القانون هنا مكبل اليدين وعاجزاً عن الملاحقة نظراً لوجود السرية المصرفية، فضلاً عن الصلاحية التي منحت لمجلس حاكمية مصرف لبنان (أي لحاكم مصرف لبنان) لاستصدار القرارات الملائمة لمواجهة الأزمة، من ضمنها قوننة مبطنة للكابيتال كونترول، فصارت المصارف تتصرف بالأموال مثلما يحلو لها وتنفذ ما تراه مناسباً لها. ما يعني أن مثل هذه الاجراءات جاءت لتحد من حركة القضاء.

تؤكد مصادر قضائية رفيعة أن “كل ما له علاقة بالأموال يلزمه قانون ولا صلاحية للقضاء إصدار القانون وإنما تطبيقه، ذلك أن صلاحيات إصدار القوانين محصورة بمجلس النواب”. ولكن لو أراد القضاء التقدم في هذا الملف لكان بإمكانه الطلب الى لجنة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان معرفة حجم التحويلات بالارقام والاسماء. وهذه هيئة مشكّلة بصلاحيات محددة يحق لها الإطلاع على حركة التحويلات كاملة.

النقطة الثانية والاهم وفق المرجع القضائي أنّه “في ظل وضع مأزوم كالوضع الراهن ألا يستدعي ذلك تضافر الجهود ما بين الحكومة ومجلس النواب لاصدار مشروع قانون عاجل، يُسقط الحجب المفروض بموجب السرية المصرفية لاتخاذ تدابير سريعة من شأنها اعادة الاموال المهربة للخارج مستعينة بالنيابة العامة التمييزية خصوصاً. كان بإمكان مجلس أقر الموازنة في غضون يوم واحد أن يتخذ أي اجراء قانوني إستثنائي إنقاذاً للوضع”.

للموضوع أبعاد مختلفة يتداخل فيها السياسي بالقضائي حكماً. قضائياً، ما يحاول القضاء الإيحاء به وكأن هناك وجهاً للملاحقة الجزائية. في حين من المفروض ان تبدأ النيابات العامة بالتحقيق في حال وجود شبهة، وليس أن تجتمع مع أصحاب الشأن وتسألهم إذا ما كانت هناك تحويلات مشبوهة، وهل يعقل أن يقول المصرف عن نفسه مشبوهاً.

يفترض أن يتم طلب حسابات بأسماء محددة. في المبدأ يجب على النيابة العامة المالية والجزائية، وكي تؤسس لملاحقة جزائية، أن تتوافر لديها معلومات بأسماء وبيانات محددة وليس عموميات، وهذا لا يتحقق إلا برفع السرية المصرفية، غير أن إجراء كهذا لا يُتخذ إلا في حالتي الإرهاب أو الإثراء غير المشروع. وإذا كان تمويل الارهاب غير موجود فالإثراء غير المشروع موجود بكثرة ولا يبدأ من الحسابات المصرفية وإنما من المشاريع والمقاولات التي نفذت، فعندئذ نحدد من صار ثريّاً على حساب الشعب.

من وجهة نظر قضائية فإن الامر لا يتعدى كونه “قنبلة صوتية”، ذلك أنّ “الفساد العلني أكثر من الفساد غير العلني في لبنان وموضوع المتابعة يلزمه توافر عنصرين في القضاء، استقلالية فعلية للقضاء المولج في الملف، وتوافر قضاة متخصصين بالجرائم المالية العامة، لان القضاء العادي قد لا يكون ملماً بالامور التقنية المتعلقة بالشؤون المالية”.

قضائياً أيضاً، هناك وجهة نظر تقول إن “كتاب المدعي العام التمييزي القاضي عويدات الى هيئة التحقيق الخاصة والطلب اليها إذا ما كانت هناك تحويلات مشبوهة، هو كتاب في غير موقعه إلا إذا كان الطلب يتضمن بيانات مع التحويلات. ولكن طالما تمّ الاعتذار عن تقديم أسماء فلا إفادة من الموضوع أصلاً، خصوصاً أن الكشف عن تحويلات مصرفية يدين السلطة ذاتها والتي كان يفترض بها سن قانون منع التحويلات، طبقاً لما سبق وطلبته جمعية المصارف سابقاً”.

من الناحية القانونية “تعد التحويلات مشروعة وطالما لا عقوبة من دون نص تشريعي، فإثبات الجريمة هنا شبه مستحيل”، ولذا فإن كل الملاحظات والافكار لن تصل الى نتيجة حتمية ما دامت مكامن الفساد لم يتم الاقتراب منها بعد. ذلك أن الفساد المشرعن والمغطى بالسياسة أكبر من الفساد الذي يقع تحت عناوين الجرائم.

ولو أرادت السلطة القضائية تحقيق إنجاز فعلي في هذا المجال لكانت رفعت توصية سريعة الى مجلس النواب تقول فيها إن لا صلاحية لنا، ونطالب بإصدار قانون لرفع السرية المصرفية عن كل التحويلات التي حصلت الى الخارج وتفوق حدّاً معيناً ويتم استدعاء المحولين أمام النيابة العامة المالية.

ولكن في الموضوع قيد الملاحقة، يبقى السؤال: ما معيار المشبوه وغير المشبوه؟ بخاصة وأن حركة التحويلات التي حصلت ليست مقيدة بقانون، فضلاً عن العلاقة الشخصية التي تجمع مدير البنك مع المودع عادةً وتسمح باستثناءات معينة خارجة عن أي قيد.