IMLebanon

هل يكون لبنان أمام وصايةٍ جديدة؟

كتب محمد قواص في “العرب اللندنية”:

سقط لبنان داخل دائرة النفوذ الإيراني بعد هزيمة الولايات المتحدة في هذا البلد في ثمانينات القرن الماضي. أجْلتْ قوات “المارينز” قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عام 1982، وخيّل أن أمرا كهذا سينهي أيضا “العصر السوري” في لبنان لصالح عصر أميركي أوحى به الانتصار الساحق الذي حققته القوات الإسرائيلية في اجتياح ذلك العام. كانت واشنطن تحت إدارة الرئيس رونالد ريغان تسعى لبسط نفوذها وتأكيد تفوقها في الشرق الأوسط، مستفيدة من مشاهد الهزيمة الفلسطينية. وعلى هذا أوفت بوعودها للرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميّل وقدمت لنظامه دعما عسكريا مباشرا، بحيث باتت البوارج الأميركية تدك مواقع خصوم الجميّل، وما يمثلونه من خصومة للعصر الأميركي، دون هوادة. لا تهم هنا التفاصيل. النتيجة أن ريغان استدعى قواته وعاد بها إلى بلادهم بعد أيام على تعرض مقر المارينز في بيروت لتفجيرات 1983 كان واضحا أن إيران تقف وراءه.

انهزمت الولايات المتحدة. الوصف عسكري بامتياز. وجاءت قوات الوصاية السورية تستعيدُ النفوذ في لبنان مستعينة بما قدمته طهران للحاكم في دمشق من نيران أبعدت ريغان وعسكره عن شواطئ لبنان. انهزمت الولايات المتحدة، وراحت توفّر رعاية دولية لوصاية دمشق على أمور بيروت. وفي تلك المعادلة ما يؤكد أن بلدا كلبنان، في حجمه ومساحاته وقواه، لا يملك إلا أن يكون جزءا من وصاية ما، وأن فنتازيا السيادة والاستقلال هي مفهوم حالم وغير واقعي، وإن حدث فهو مصطنع قد تجري داخله مراعاة ما هو شكلي طالما أن هذا الشكل لا يتصادم مع أجندات الأوصياء.

يقع لبنان جغرافياً في منطقة لا يمكن إلا أن يتأثر داخلها بالديناميات المحيطة. تمايلت جدرانه كلما هبّت رياح كبرى في المنطقة. تروي حكاية استقلاله قصصا عن الكيفية التي ترسمُ فيها الخرائط على أيدي من يخطّونها وفق المصالح الكبرى ومن ينحت تفصيلاتها وفق طباع الفاعلين. كان للبنان حصة في صراع الغرب والشرق. تلاعبت به حقبة “حلف بغداد” والمدّ الناصري، وصعود منظمة التحرير، وظل يميل غربا رغم انجذابه إلى أحلام ذلك الشرق وطموحاته وهذيانه.

لا يستطيع لبنان إلا أن يكون جزءا من استقطاب. قيل يوما إنه مدلل فرنسا والغرب. جذبته براكين العروبة والوحدة العربية. وجد الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر نقطة توازن مع الرئيس اللبناني الراحل فؤاد شهاب لعدم المسّ في توازناته، فيما لم تكترث الوصايتان السورية والإيرانية لذلك الترف، فكان أن وصل البلد إلى ما وصل إليه هذه الأيام.

لا يجد لبنان هذه الأيام إلا إيران وصيّا معلنا في غياب وصايات بديلة. لا يبدو أن نظام دمشق يستطيع أن يلعب هذا الدور، وهو بالكاد يشقّ النفس لفرض وصاية على سوريا. ولا يجد لبنان إلا وصاية طهران المفروضة بقوة القهر والأمن والعسكر، فيما لا تملك أيّ وصايات بديلة هذه “المواهب”. وإذا ما كان البلد لا يقوى على مقاومة الأوصياء عليه إلا بتوفر قوة كبرى رادعة، فإن لبنان الذي سقط داخل وصاية دمشق بالرعاية الكاملة للولايات المتحدة والحلفاء، يجد نفسه يسقط منذ سنوات، رويدا رويدا، داخل وصاية طهران، دون أن تلوح ظواهر اعتراض جدية وحقيقية، أو رد فعل صارم، بإمكانه إرباك الفعل الإيراني وأدواته المحلية.

لا يمكن للعالم إلا أن يعترف أن في لبنان من آمن يوما بأن قواه الذاتية تستطيع أن تجلي وصاية ثقيلة وتحرّر البلد من براثن التبعية لأجندات ما وراء الحدود. جرى أن تلك الوصاية دافعت عن نفسها بشراسة وحمت نفوذها بضراوة. يوما حين أجبرت “المارينز” على مغادرة البلد، ومرة حين فتكت بالخصوم اغتيالا، واحدا بعد آخر، منذ مقتل رفيق الحريري، ومرة حين انقلبت على البلد برمته بقوة السلاح في “7 أيار” الشهير. وفي أعقاب كل مواجهة كان واضحا أن العالم الذي يزعم دعمه لـ”السياديين” في لبنان تركهم يذبحون، وذهب لترتيب تسويات (اتفاق الدوحة نموذجا) تمحض قوة القهر بشرعية دستورية يتآلف العالم مع مآلاتها.

اندفع خصوم حزب الله في لبنان إلى الخروج من فقاعة ساذجة أوحت لهم أن العالم يقف معهم. راحوا يغادرون معسكراتهم ويمتهنون ركوب البراغماتية الأقرب إلى الانتهازية. بدا لهم أن وصاية طهران أزلية عزز من صلابتها اتفاق الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مع إيران، وبدا لهم أيضا أنّ لا تعويل على ما انقلب في مزاج واشنطن ضد نظام الجمهورية الإسلامية في عهد سلفه دونالد ترامب. وفي ذلك ما نفهمه من تسويات متفاوتة اندفع إليها سعد الحريري أو سمير جعجع أو وليد جنبلاط مع أمر الوصاية لاتقاء شرورها. وفي ذلك ما لا نفهمه من تلك القَدَرية التي يتعامل بها العالم، من عواصمه الدولية الكبرى إلى تلك العربية الفاعلة المفترض أنها معنية بشأن هذا البلد.

أن يُترك لبنان لأمر الوصاية السورية في عهد حافظ الأسد وفي عهد ابنه لاحقا، فذلك أن تلك الوصاية كانت تمثل نقطة تقاطع تم الاتفاق عليها بما يراعي مصالح من له مصالح في لبنان. راعى نظام الأسد، حتى خروج القوات السورية من لبنان عام 2005، مصالح إسرائيل بدقة في ما عُرف بالخطوط الجغرافية الحمراء. راعى مصالح الولايات المتحدة رغم ما كان يجاهر به من تحالف مع موسكو. وراعى مصالح السعودية سواء في إنهاء الحرب في مدينة الطائف، أو في ظهور رفيق الحريري وبروز دوره تحت حكم الوصاية.

لكن أن يُترك لبنان من جديد لوصاية إيران ببلادةٍ يحكمُها حرد، فتلك خطيئة في حساب الأرباح والخسائر كما في القراءات البسيطة للمشهد الجيواستراتيجي في المنطقة. وأن يتم التسليم بأن البلد الذي تعاقبه الأزمة الاقتصادية سينقلب على أوصيائه ويهرول للالتحاق بركب “الأشقاء والأصدقاء”، فتلك سذاجة تشبه التسليم بأن عقوبات ترامب وحدها كافية لجرّ إيران صوب طاولة ترامب للمفاوضات.

يعيدُ العرب ارتكاب الخطيئة التي اقترفوها بحقّ العراق حين غادروه تاركين لإيران وأدواتها حق التمتع الكامل. عرف العرب أن عودتهم اللاحقة كانت متأخرة لا تقوى على مواجهة أمر واقع بات من العسير تقويضه. أن يترك العرب لبنان دون مقاربة حيوية تعزز حضورهم في البلد، فذلك يعني أنهم يواكبون الحدث الإيراني ويُفرطون في الاكتفاء بتأمله. وأن يمارسوا ضد لبنان حردا لكونه لا يقوى على الخروج من الزمن الإيراني، فذلك أنهم خذلوه كما خذله العالم حين حاولوا ذلك.

أمام الزمن الإيراني في لبنان استحقاقات تضعه في مواجهة ما ترومه واشنطن. قد تطالب الأخيرة بتفاهمات حول ترسيم حدود لبنان مع إسرائيل، وأخرى تطال قطاع النفط في مياهه ومطالب أخرى. وقد يحصل أن تذهب طهران يوما لإبرام اتفاق جديد مع الولايات المتحدة الترامبية. وإذا ما أتاحت إيران وحزبها في لبنان تلك التفاهمات اللبنانية، أو انسحب على لبنان اتفاق طهران وواشنطن المتوخّى، فذلك يعني أن الوصاية التي تمرر للأميركيين مصالحهم وترسم ابتسامة نصر على وجه رئيسها، ستحظى برعاية أميركية كما تلك التي حظي بها نظام حافظ الأسد، على نحو يجعل العرب فرعا هامشيا داخل زمن لبنان المقبل.