IMLebanon

اللقاء التشاوري: الحريري لم يخرج من السلطة

كتب فراس الشوفي في “الاخبار”:

خرج الرئيس سعد الحريري من رئاسة الحكومة، لكنّه بقي ممسكاً بالوزارات التي كانت محميّات لتيار المستقبل، وبالإدارات عبر جيش من الموظّفين، لتستمرّ حربه على أخصامه في الساحة السنيّة، وفي مقدمهم أعضاء اللقاء التشاوري.

هل خرج الرئيس سعد الحريري فعلاً من السلطة مع خروجه من رئاسة الحكومة لمصلحة الرئيس حسّان دياب، كنتيجة أولى لتفجّر شرارة 17 تشرين الأول 2019؟ الجواب «لا»، على الأقل بالنسبة إلى كتلة نواب اللقاء التشاوري، التي لولا أصواتها، لكان دياب منزوعاً من الشرعيّة النيابيّة «السنيّة» في لعبة الطوائف المستمرة بتسيّد البلاد.

وبرز هذا الشعور/ الاعتراض، في الموقف الذي عبّر عنه عضو اللقاء النائب جهاد الصمد، برفضه منح الثقة للحكومة. ولو أن زملاءه في «الكتلة»، رغم قناعتهم المشابهة، فضّلوا منح الثقة لحزب الله قبل دياب، طالما أن الحزب اعتبر تشكيل الحكومة مع كل الشوائب، أفضل من ترك البلاد للفوضى.

وربّما لم يكن الصمد ليعترض بهذا الشكل، لو قُبِل طلبه تعيين وزير من قضاء الضنية بدل أربعة وزراء من قضاء الكورة مثلاً أو وزير من طرابلس. لكنه حين يُسأل، يقول إن المشاركة «المفترضة» في هذه الحكومة، هي مشاركة في تحمّل المسؤولية، وليست في المحاصصة، وأن «الاعتراض هو على مبدأ استمرار التعامل مع اللقاء التشاوري أو القوى السنيّة الأخرى وكأن الحريري هو رئيس الحكومة». ويعترض نائب الضنيّة تحديداً على تمثيل اللقاء التشاوري بوزير واحد في حكومة دياب، هو وزير الاتصالات طلال حواط، الذي سمّاه دياب وهو مقرّب من النائب فيصل كرامي. وهي الحصّة ذاتها التي تمثّل بها اللقاء عبر الوزير حسن مراد في الحكومة الماضية، والتي تأخّر تشكيلها أشهراً حتى رضخ الحريري لهذا التمثيل، بعدما حاول مراراً التمسّك باحتكار تمثيل السنّة في الحكومة، منقلباً على نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة.

طبعاً عقلية الحصص، كانت دائماً نهجاً لبنانياً، وهي مستمرة حتى إشعارٍ آخر، على الرغم من الفشل الكامل لهذا النظام. لكنّ مسألة تمثيل اللقاء التشاوري، أو غيره من القوى التي انضوت سابقاً في قوى 8 آذار وتحجز أمكنتها في البلاد على ضفاف أمراء الطوائف، تحمل دلالات حول التحوّلات التي من المفترض أن ترسيها مرحلة ما بعد الحريرية السياسية. وهي تشكّل أيضاً جزءاً من مشهد عام، يحكم واقع «السنّيات السياسية» في العالمين العربي والإسلامي ومستقبلها. إذ يترافق انحلال الدولة اللبنانية واحتضار الحريرية السياسية، مع معركة بين تركيا من جهة، والدول التي يسمّيها الأميركيون «عرب الاعتدال»، أي السعودية ومصر والإمارات، من جهة أخرى، على امتداد العالم الإسلامي، وخاصة في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والوسط العراقي، وصولاً إلى ليبيا.

بعد الطائف، وحتى اغتياله في 2005، استخدم الرئيس الراحل رفيق الحريري كل أدوات السلطة والمال لاحتكار تمثيل السنّة اللبنانيين، والقضاء على الزعامات التقليدية في المناطق أو إخضاعها، من آل كرامي في الشمال إلى الحالة التي يمثّلها آل سعد في صيدا، مروراً بآل سلام في بيروت، من دون أن يهمل الحرب على جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية. وبعد 2005، سخّر الرئيس سعد الحريري كلّ أجهزة الدولة، الخدماتية والأمنية والقضائية والدينية وماله السياسي المتدفّق في تلك المرحلة على لبنان، بغية استمرار الهيمنة واحتكار الأكثرية الشعبية والنيابية، وطبعاً الحروب الإعلامية التي وسمت خصومه بالعمالة لسوريا وحزب االله والاشتراك في «دم الشهيد». لاحقاً، استفاد الحريري من الجماعات التكفيرية والسلفيّة، لـ«تطهير» مناطق نفوذه من معارضيه، فحرقت مكاتب بعض الأخصام في طرابلس والطريق الجديدة، وهجّروا القياديين من البيوت تحت ضغط التهديد والاغتيال، وسُحل آخرون في الشوارع ومُثِّلَ بجثثهم كما حصل مع 11 عضواً من الحزب السوري القومي الاجتماعي في حلبا في عكار، ويومها حرص المجرمون على التأكّد من «سنّية» ضحاياهم. وكل هذا الانتقام من أخصام الحريري، كان في صلب فرز الساحة اللبنانية، بين مؤيّد لنهج المقاومة وسوريا ومعادٍ له.

صمد أخصام الحريري طوال هذه السنوات، بينما كانت مسيرته السياسية ومؤسساته المالية تصيبها الانتكاسات وتتعثّر. ومع فقدانه الموقع والدور، تدريجاً منذ خسارته في 7 أيار 2008 وسقوط الرهان على ميليشيات تواجه سلاح المقاومة في الداخل، وانكفاء السعودية نحو أزماتها الداخلية، جفّ المال السياسي عن الحريري، فخسرت الحريرية سلاحها الأقوى، ليتوّج التراجع في نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، ويعود الأخصام إلى الواجهة من بوابة المجلس النيابي وشرعية شعبية واضحة.

في حكومته الأولى بعد الانتخابات، كان صعباً على الحريري التسليم لخصومه بالفوز، وقبوله بكسر الاحتكار. فكيف لـ«زعيم السّنة» أن يقبل منافسين، وشريكه بالتسوية الرئاسية الوزير جبران باسيل يسعى إلى الاحتكار ذاته حتى أصغر موظف في الجمهورية، تحت عنوان «حقوق الطائفة»، والسعي لتثبيت نظريّة «القوي بطائفته»؟ إلّا أن الحريري عاد ورضخ بعدما تيقّن من أن الحكومة لن تتشكّل لو لم يتمثّل اللقاء التشاوري.

قد يكون مفهوماً عدم إصرار حزب الله على عرقلة دياب، ولو من باب الضغط لـ«تكبير حصّة» اللقاء التشاوري، في ظلّ الظروف الدقيقة التي تشكّلت بها الحكومة، تحت ضغط الشارع والانهيار المالي والاقتصادي والتحديات الخارجية. إلّا أن ما ليس مفهوماً، هو استمرار أطقم العمل الرئيسية في الوزارات التي شكّلت «محميّات» لتيار المستقبل ومحسوبة عليه، بالعمل مع الوزراء الجدد، وعلى النهج ذاته، للحفاظ على ما تبقى من نفوذ للحريري في الدولة. وسواء كان الحريري على رأس الحكومة أو لم يكن، فإن جيوش القضاة والضّباط التي تعمل في خدمته ولمحاربة أخصامه مستمرة في عملها، طالما أن هؤلاء لم يشعروا بأن شيئاً تغيّر، وأن سلطة جديدة تشكّلت في البلاد. وهو ما لا يبدو متاحاً حالياً، حيث لا يزال ثنائي حركة أمل وحزب الله، وتحت ضغط التهويل بالصراع السّني ــــ الشيعي، يتمسّك بالحفاظ على الحريري.

في المقابل، يتعرّض أعضاء اللقاء التشاوري، الذين منحوا حكومة دياب الثّقة، لحملات مكثّفة من تيار المستقبل في مناطقهم بتهم قديمة ــــ جديدة، بالعمالة لحزب الله والعلاقة مع التيار الوطني الحر. بينما فعليّاً، لا يخفي الحريري أمام محدّثيه، أن الجهة الوحيدة التي لم تطعن به هي ثنائي حزب الله وحركة أمل. وعندما كان الحريري شريكاً للتيار الوطني الحرّ في إدارة لبنان لأكثر من ثلاث سنوات، كان هو المستفيد الأوّل من خدمات الوزارات التي أدارها الوطني الحرّ على قاعدة تبادل الخدمات والاحتكار والمحاصصة بين «الأقوياء في طوائفهم». بينما حُرم نواب اللقاء التشاوري من خدمات العونيين، ومع ذلك حملوا وزر التحالف السياسي مع الرئيس ميشال عون وخطابات باسيل الطائفية والعنصرية.