لم يكن سهلاً إصدار مشروع التشكيلات القضائية في هذه الظروف الاستثنائية التي يمرُّ فيها لبنان. اجتمع أعضاء مجلس القضاء الأعلى بشكل شبه يومي طوال أكثر من شهرين للخروج بتشكيلات «ترضي» الحدّ الأدنى عند اللبنانيين، لكونها ستحرّك أكثر من نصف قضاة لبنان، مع عقبات كثيرة أعاقت إصدارها مراراً.
فالأسماء والمواقع والـ«خطوط الحمراء» والفيتوهات على قضاة والدعم لآخرين، كلّها شكّلت عوائق أمام إنجاز تشكيلة بعيدة فعليّاً عن السياسة. المفاجأة أن مشروع التشكيلات صدر بإجماع أعضاء المجلس، وسجّل القضاء سابقة باستبعاده غالبية القضاة الذين ارتبطت أسماؤهم بملف الفساد القضائي.ويأخذ العديد من القضاة مواقف معترضة على التشكيلات، مع إشارات واضحة إلى «استبعادها القضاة العونيين»، إذ أن استبعاد القضاة غادة عون وبيتر جرمانوس ونقولا منصور ورولان شرتوني ومارسيل باسيل وسمرندا نصّار، أجّج هذا الاعتقاد، علماً بأنّ بعض هؤلاء القضاة عليهم شكاوى في التفتيش القضائي أو محالون تأديبياً.
وتختلف أسباب استبعاد القاضية عون، لكون مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات يرفض أن تكون من بين معاونيه. غير أن مصادر في مجلس القضاء الأعلى أكدت لـ«الأخبار» أنهم «استبعدوا القضاة الذين لديهم انتماء سياسي نافر. والأمر لم يقتصر على التيار الوطني الحر، إنما طاول قضاة لديهم انتماء حزبي لكل من تيار المستقبل وحركة أمل». وترى المصادر أن «التشكيلات صُورت وكأنها أطاحت بقضاة العهد، لكن الحقيقة أن الصدف شاءت أن يكون بعض أغلب هؤلاء الذين جرى نقلهم عليهم شبهات». كذلك يأخذ القضاة المعترضون على التشكيلات أنها لم تراع المعايير التي وُضِعت، ولا سيما لناحية احترام الدرجات أو الأقدمية. ويقول أكثر من قاضٍ لـ«الأخبار»، إن «زملاء مشكوكاً في مناقبيتهم تُرِكوا في مراكزهم». ويضيف أحد المصادر أنّ «أحد المدعين العامين كذب بشأن عدد الملفات الذي بحوزته بهدف إرسال مجلس القضاء الأعلى المزيد من القضاة لمساعدته، لم يحاسب». ويقول كذلك، إن «هناك مراكز نُقل إليها قضاة محظيون، بينما هناك قضاة من المشهود بمناقبيتهم تُرِكوا في مراكز هامشية. وهنا يأتي على ذكر قاضية منفردة لا تزال في مركزها منذ أربع سنوات، لكن عُين الأقل منها درجة في مراكز أكثر أهمية. غير أن مصادر القضاء الأعلى تؤكد أن «الدرجة كانت معياراً أخيراً في اللائحة، بحيث قُدمت السمعة والإنتاجية والشخصية الدينامية».

من جهتها، وضعت غادة عون استقالتها بتصرف رئيس الجمهورية ميشال عون. القاضية المثيرة للجدل، وصفت التشكيلات القضائية بالانتقامية، معتبرة أنه جرت الإطاحة بها بسبب قراراتها في مكافحة الفساد. وكانت عون قد زارت رئيس الجمهورية لتحصل منه على وعد بعدم نقلها من مركزها إذا لم يُسجن النائب هادي حبيش. وخلال اللقاء، شرحت عون لرئيس الجمهورية ما حصل معها، متحدثة عن تعرضها للانتقام لتصدّيها لمواجهة الفساد.

«استياء عوني» مع اعتبار التشكيلات موجّهة ضد مجموعة من القضاة بينهم غادة عون

رلى الحسيني، قاضية ثانية قدمت استقالتها اعتراضاً على تعيينها رئيسة الغرفة العاشرة لمحكمة الاستئناف في جبل لبنان، أي محكمة الجنايات، بعدما كانت رئيسة محكمة استئناف الجنح في بيروت. علماً أن المنصب المشكّلة إليه كان مقرراً أن يبقى يشغله القاضي محمد وسام مرتضى، لكنّ رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود رفض ذلك، طالباً إبدال موقعي القاضيين، ما دفع بالقاضية إلى الاستقالة لـ«أسباب صحية».
قاضٍ ثالث وقف في صف المهدّدين بتقديم الاستقالة. قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان نقولا منصور، الذي جرى التحقيق معه في ملف الفساد القضائي لعلاقته بأحد أبرز سماسرة القضاة. كتب منصور في مجموعة «واتساب» تضم عدداً كبيراً من القضاة: «إذا صحت الأخبار عن التشكيلات الزبائنية، طبعاً سوف أتقدم باستقالتي وأطلب المباشرة باستجواب مجلس القضاء على ثرواتهم وإنجازاتهم في القضاء وميولهم السياسية وكيف تم تعيينهم، وإذا كانت تتناسب مع المعايير التي تم وضعها من قبلهم في التشكيلات».
ويعوّل القضاة المعترضون على وزيرة العدل ماري كلود نجم ورئيس الجمهورية لرد هذه التشكيلات. فعلى الرغم من أن نجم أعلنت سابقاً أنها لن تتدخل في التشكيلات القضائية، ثم غرّدت بأنها قد تتدخل للتصويب، كشفت مصادر قضائية أن «وزيرة العدل بصدد ردّ التشكيلات لطلب تعديل بعض الأسماء». وكشفت المصادر أن «هناك استياء عونياً»، مشيرة إلى أنه مع »استقالة عدد من القضاة سيكون مبرراً رد التشكيلات». غير أن مصادر مقابلة ترى أن «الوزيرة اعترضت على الشكل لجهة عدم الاجتماع بها قبل إصدار التشكيلات».