IMLebanon

الخيمُ رُشّت والثوار عائدون… ساحات الثورة في زمن “كورونا”!

كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:

أرادوها ثورة… ثورة حتى النصر، لكن، لكثرة ما عاث الفاسدون فساداً في هذه الأرض، خرج الفيروس القاتل “كورونا” ليحصد الأخيار والأشرار، محوّلاً الأنظار في لبناننا عن الهدف ومبدلاً في العالم أشدّ تبديل. فهل انتهت ثورة 17 تشرين مع هبوب الفيروس وتفشّيه؟ وكيف حال ساحتي الشهداء ورياض الصلح اللتين عاشتا منذ أكثر من مئة وأربعين يوماً حلم التغيير؟

ماتت الثورة… لا، لم تمت ولن تموت… لكن، حين تتهدد كلّ الحياة، ويُصبح “انقطاع النفس” خارج السيطرة، لا تعود الثورة الشعبية أولوية. أقاويل وتوقعات وإشاعات وترجيحات فماذا تقول الأرض؟ ماذا في ساحات الثورة؟

رواد التغيير، أو لنقل أكثرهم، غادروا. خيمٌ كثيرة ختمت أقفالها وغادر ثوارها وقلّة قليلة جداً لا تزال هنا. “سيكون خراباً إي والله”. شعارٌ لا يزال راسخاً على الجدران لكن، هل كان كاتبه يتنبأ بالآتي؟ “حبو بعضكم”، شعار آخر ملفت في زمن الخوف. عنصران عسكريان يقفان تحت صورة عملاقة للشهيد علاء أبو فخر مذيلة بعبارة “شهيد الثورة على الطغاة”. فهل جفت دماؤه وانتهت الثورة؟ يتكرر السؤال في البال.

“الثورة تناديك”. نقرأ على خيمة فرغت من الثوار. ساحة اللعازارية شبه فارغة. إمرأة مسنة تسأل عن السفارة الفرنسية في مكتب التأشيرات TLS. ندلّها. نراها تمشي بقفازين وقناع نحو هدفها، تحت وهج شمس آذار، بخوف. “جوعان” كلمة تكررت على الحجارة. فهل اقتنع كاتبها، قبل ان يغادر، أن الحجر قد ينطق قبل أن يسمع، مَن كان يفترض أن يسمع، صوته؟ خيمة حراك بعلبك الهرمل فارغة. خيمة الوحدة الوطنية فارغة. خيمة قاوموا السرطان فارغة. ندخل إليها فنقرأ عبارة: “الطبيب يداوي والله الشافي وما من مستحيل عند الله”. عبارة نحتاج إليها كثيراً اليوم.

“تحيا الحياة”. ثائر كتبها ذات يوم. وحدها العبارات صمدت في الساحات. نقرأها بلا ملل: “هكذا أفهم الحياة: أن نصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب”. عبارة قالها ذات يوم ناجي العلي واستعادها ثائر. النراجيل تنتظر من يأتي عبثاً. فكيف يجرؤ من يضعها على تقديمها الى أيٍّ كان في زمن الكورونا؟ يجيب الصبي الذي يُشعل الفحم: ما في كورونا ولا بلوط! النرجيلة بخمسة آلاف لكن لا شاربين ولا حركة.

شابٌ يتمشى امام خيمة “أوعا”. هو يُصرّ على البقاء هنا مستخدماً عبارة “قف على ناصية الحلم وقاتل”. هو لن يغادر من هنا إلا محمولاً. لكن، ألم يسمع بعبارة “خليك بالبيت”؟ يجيبنا بسؤال: ألم تسمعوا بأضرار جبال النفايات ومعامل الكهرباء والإسمنت والمجارير المفتوحة؟ ويستطرد: “البارحة جرى رشّ كلّ الخيم مرتين والذي يأتي من الله يا محلاه”.

“تك تك تك يمّ سليمان تكتكنا بين النيران”. عبارة كتبت للتوّ. نتابع مسارنا ونحن نسمع بين القلة القليلة من المسنين الذين يتكئون على درج المسجد كلمة: كورونا… كورونا… كورونا. لا يجتمع إثنان إلا ويكون صدى الكلمة ثالثهما.

شابان يجلسان في خيمة “إنتفاضة 17 اكتوبر” الشيوعية التي يطلّ عليها مجلس الوزراء. كلاهما من عكار. يخرج احدهما من الخيمة وينظر الى فوق، صوب المجلس، مردداً: أقفلوا نوافذ وأبواب المجلس، لحماية أنفسهم، وتركونا هنا، لكننا نعدهم اننا سنبقى ومن غادر سيعود لأننا على يقين أن “لا خوف بعد الموت” ونحن أشباه موتى.

يا الله ما هذا السكون القاتل. يا الله كم هناك من شباب وشابات باتوا، بلا ضجيج كورونا “موتى- أحياء”. ندخل الى خيمة “الرصيف 17”. هي فارغة إلا من عبارات أصحابها: من نحن؟ نحن بدنا نشتغل. نحن بدنا حقوقنا. نحن بدنا نقل مشترك. نحن بدنا مصرياتنا. نحن بدنا نستعيد الألوان… هذه بعض مطالب “ثوار الرصيف” الذين يريدون دولة لا غير.

السواتر الحجرية الفاصلة بين الخيم الفارغة والدولة الفارغة مزروعة بالمسامير. السلطة المسماة دولة حصنت نفسها جيداً. شابٌ يمرّ في الجوار يتمتم وحده من دون أن يسمع سؤالنا: لم يعد يخيفنا شيء… لم نعد نملك أي شيء لنخسره. الحمام الرمادي اللون يسرح بلا خوف على الطريق بحثاً عن فتاتٍ يقتات منها.

هي الساعة الحادية عشرة و48 دقيقة. هو موعد الآذان. نستمع إليه ونحن نتابع مسارنا. إمرأتان تقتربان من ضريح الشهيد رفيق الحريري تتلوان الفاتحة، تمسحان وجهيهما وتتابعان طريقهما. خيمة “حراك العسكريين المتقاعدين” مقفلة. العسكريون القدامى غادروا تاركين عبارة: سرقتم الأمان من صنّاع الأمان. بالقرب من كلّ خيمة ملصق: فيروس الكورونا ما هو؟ طرق العدوى؟ الإجراءات الواجب اتباعها؟ على أحد الجدران ملصق آخر كتب عليه: الليطاني يقتلنا بالسرطان ولا أعمال لرفع التلوث! ثمة أناس يرون الكورونا “دحّة” أمام التلوث الكبير الذي يعيشه اللبنانيون من زمان وزمان.

محل البحصلي بالقرب من تمثال رياض الصلح يعمل. ثلاثة او اربعة عمال يعدون البقلاوة اللبنانية لتصديرها الى الخارج. أملٌ في قلبِ اليأس. وبالقربِ من المحل بائع عصير “أبو صرة”. الليمون مناعة.

أجراس الكنائس تُقرع. هي الساعة الثانية عشرة والزمن زمن صوم. نرسم شارة الصليب ونتابع. هي مرحلة جديدة كُتبت على لبنان على أمل ألا يكون الآتي أعظم.