IMLebanon

السـنيورة ومثال السـيارة التائهة… والإصلاح الممكن

كتب أحمد الزعبي في “اللواء”:

في العام 2004 بدأت تظهر ملامح مرحلة سياسية جديدة، ومع أنها كانت تركّز على الانتخابات النيابية المقبلة حينها، وعلى مسائل سيادية تتعلق برفض الهيمنة السورية على لبنان، أعاد الرئيس السنيورة التذكير بالمسألة الإصلاحية كشرط رئيس لاستمرار بقاء الدولة. وفي ورقة التوجهات والأهداف الإصلاحية التي توختها عملية إقرار المواد القانونية الاصلاحية المقترحة في مشروع موازنة العام 2005، رفع الصوت مجدداً بوجه معرقلي الاصلاح فـ«ثمة تقاعس، وفساد، وعدوان على المال العام، وعلى المستقبل الوطني، ولا بدّ من اتخاذ موقف من جهة، وتوليد إرادة سياسية واعية من جهة ثانية. فالدولة لا تستطيع الاستسلام لهدر المال العام والعبث به»، وحذر من «أن تتحول الإدارة السياسية إلى عبء على المواطن بدلاً من قيادته».

أكثر من ذلك، ذهب السنيورة إلى أن «المجاملة ما عادت ممكنة أو لائقة، ونحن جميعاً أمام مسؤولياتنا»، ذلك أن «الأعباء الهائلة الواقعة على كاهل المالية العامة، تتسبب بضعف شديد، والضعفاء لا يستطيعون التصدي للمشكلات، كما لا يستطيعون صونَ المكتسبات». كانت الأحداث أسرع، والعراقيل أكبر.. وفي مكان ما كان هناك من يخطط لجريمة كبرى تمثلت بزلزال 14 شباط 2005 وما أعقبه من تداعيات.

في العام 2007، وخلال ترؤسه حكومته الأولى، وغداة حرب تموز وانعكاساتها المدمرة على الاقتصاد اللبناني وماليته العامة، جدد السنيورة التأكيد أن «الإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري في لبنان، لم يَعد واجباً تنموياً فحسب، ولا واجباً سياسياً فقط، بل بات واجباً أخلاقياً أيضاً»، بمعنى أن التحديات الماثلة تستدعي تجاوز حال المراوحة والعرقلة الذي أساء إلى الاقتصاد، وإلى جميع اللبنانيين، فضلاً عن كونه أساء إلى الطبقة السياسية بمجملها، ويشير إلى خطر تنامي العجز وتراكم الدين العام، ومعوقات النمو، وانخفاض الانتاجية، وتفاقم التواكل والفساد، «فمرة يقال للبنانيين إن الظروف غير ملائمة، ومرة يقال لهم إن البرامج المطروحة غير صالحة، أو غير وطنية. وعندما توصل لبنان إلى شبه توافق على برنامج انقاذي انعقد على أساسه مؤتمر باريس – 2، بجهود الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ويقوم على إقرار ضريبة على القيمة المضافة، وترشيق وزارة الإعلام وشركة طيران الشرق الأوسط وتعيين مجلس إدارة لكهرباء لبنان.. لكن تمّ تفشيله»، لكن وكما في كل محطة ومفصل، لم تجد دعوات المضي بالإصلاح آذاناً صاغية من قبل الطبقة السياسية المتحكّمة.

في تعليقه على قرار الحكومة تعليق سداد سندات «اليوروبوندز»، وهو من المؤيدين للقرار، بل يعتبره ضرورياً، رأى الرئيس السنيورة ضرورة أن تتمّ هذه الخطوة «بشكل منظم»، أي أن تمضي الحكومة بالإصلاحات التي تمكّنها من الانطلاق نحو تصويب الأوضاع المالية والاقتصادية والنقدية، لا أن تكتفي بإعلان التعثر فقط وفتح الباب للمزايدات الشعبوية حول مسؤولية ذلك، والأهم، برأيه، أن يكون برنامج الإصلاح مستنداً إلى التواصل والتعاون مع صندوق النقد الدولي، وهذا الأمر ليس جديداً أو بدعة في العمل الحكومي اللبناني، فمؤتمرات باريس1، و2، و3، استندت إلى الدعم التقني والمعنوي من صندوق النقد.

هذا في الشق المتعلق بالإصلاحات المالية والنقدية، أما الشق السياسي، فيشدد السنيورة على ضرورة تصحيح علاقات لبنان بأشقائه وأصدقائه، إذ «خلال السنوات العشر الماضية حصل اختلال كبير في السياسات الخارجية وفي علاقات لبنان مع الدول العربية ومع المجتمع الدولي، وهو ما تسبب بانحسار النمو الاقتصادي بشكل كبير، وتزايد العجز في الخزينة، وبالتالي عجز في ميزان المدفوعات».

ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني أن «التردي في أوضاع لبنان المالية والنقدية لا يعود إلى السياسات المالية والاقتصادية على مدى العقود الثلاثة الماضية بل لعدم الالتزام بمقتضيات تلك السياسات لجهة خفض العجز وإلى عدم الموافقة على القيام بالاصلاحات اللازمة». وهنا يستذكر السنيورة أن «المجالس النيابية المتعاقبة والمجتمع السياسي في لبنان لم يلتزما بالسياسة التي وضعتها حكومات الرئيس رفيق الحريري لجهة الالتزام بخفض العجز في الموازنة والخزينة، وذلك بسبب إقرار عدد كبير من اقتراحات القوانين بصيغة سلف من الخزينة التي كان يترتب على إقرارها زيادات كبيرة في حجم الانفاق العام، وبالتالي زيادة في الدين العام. والمشكلة أن إقرار الاقتراحات لم يترافق مع اعتماد الإصلاحات المطلوبة»، كذلك لم تتمكن الحكومات في السنوات العشر الأخيرة من الحرص على الدستور وتنفيذ القوانين التي أقرها مجلس النواب كقوانين الكهرباء والاتصالات والطيران المدني، ولم يتم ايضاً احترام سلطة الدولة على مرافقها، ولم يتم احترام معايير الكفاءة والجدارة في إيلاء المسؤوليات في الإدارة الحكومية إلى أكفائها، ويضاف إلى ذلك انخفاض معدلات النمو الاقتصادي إلى ما يتراوح بين الصفر والاثنين بالمائة، ما زاد من حجم العجز في الموازنة وفي الخزينة.

هكذا يتبين أن مشكلات لبنان تعود إلى الممارسات التي حصلت، وفيها تنكّر وتقاعس من قبل الحكومات والمجتمع السياسي والمجالس النيابية المتعاقبة، بالتكافل والتضامن، عن المبادرة إلى التصدي للمشكلات الاقتصادية والمالية في الوقت اللازم وفي المكان الصحيح من خلال اعتماد الاصلاحات القطاعية والإدارية والمالية التي كان يفترض بالحكومات القيام بها.

في الشق السياسي، لا يمكن إغفال الاجتياحات الاسرائيلية، وفوضى المشاحنات والخلافات السياسية الداخلية والتوترات الأمنية والاقفال القسري لمجلس النواب وتعطيل انتخاب رئيس للجمهورية لفترة طويلة والتأخر بتشكيل الحكومات، والممارسات الشعبوية المتعاظمة وعدم التصدي للفساد السياسي، ومن ثمّ الإمعان بمخالفة اتفاق الطائف وتكريس أعراف تخالف الدستور، ومشاركة حزب الله بحروب المنطقة، وعدم فرض سلطة الدولة، واختلال علاقة لبنان بالعالم العربي والأسرة الدولية… كل ذلك كان له كلفته الباهظة على مكانة لبنان، والتي انعكست ايضاً على الوضعين المالي والاقتصادي لجهة خفض النمو وتفاقم مشكلتي العجز والدين العام، وتحول الفائض في ميزان المدفوعات إلى عجز مزمن وخطير.

نعم، السياسات الخاطئة اللاحقة هي التي أورثت العزلة والعجز والتضخم والإفلاس، ومنعت استمرار تدفق المساعدات والتحويلات المالية إلى لبنان، وصولاً إلى إعادة كثير من الدول النظر بكل الالتزامات التي كانت وعدت بها خلال مؤتمر «سيدر» ربيع العام 2018.

الإصلاح الحقيقي هو عندما نكون قادرين عليه، لا مجبرين، لأنه سيكون حينها أكثر كلفة

في تقدير الرئيس السنيورة أن الخروج من الأزمة ممكن، وأن أي خطة للنهوض لا بدّ وأن تركز على القطاعات الاربعة التي سبق الحديث عنها؛ المالية، النقدية، القطاعية وحجم الإدارة، ثم إعادة التوازن للوضع السياسي، واحترام الدستور واتفاق الطائف، واعتماد الحوكمة الصحيحة للإدارة الحكومية، ومعالجة الخلل الكبير في السياسات الداخلية والخارجية «إذ لا يمكن للبنان أن يكون ضدّ مصالح أبنائه، ولا يمكن للدولة أن تكون الطرف الأضعف»، بل إن مآلات الأزمة الراهنة تثبت مجدداً صوابية المشروع التنموي الذي طرحته «الحريرية الأولى» وتمت عرقلته بشتى الوسائل، وكثيراً ما يستحضر السنيورة مقولة ألبرت أينشتاين «ليس بإمكانك أن تحل مشاكلك إذا استمريت باستعمال ذات التفكير والأساليب التي استعملتها عندما تسبّبت بها».

المدخل للاصلاح، إذن، يقوم بداية على ترشيد الانفاق وتخفيض حجم إدارة الدولة، وترشيقها وزيادة فعاليتها وإنتاجيتها، وتشجيع الاستثمار وتحفيزه وتعزيز النمو، وإيلاء دور اكبر للقطاع الخاص في الاقتصاد الوطني.. وذلك كفيل بتحقيق نمو مستدام الذي هو أساس تخفيض العجز والدين العام، ويضاف إلى ذلك، تصحيح العلاقات مع العالم العربي والشرعية الدولية. فـ«المجتمع العربي والمجتمع الدولي، لن يمدا يد المساعدة إلى لبنان إلا إن ساعد اللبنانيون أنفسهم»، هذه الخلاصة تحديداً، يرى فيها السنيورة إكسير النجاح وروحه، وتمثل جوهر رسالة ودور لبنان الرائد والنموذج.

وهو عاد في العام 2019، أي بعد التسوية الرئاسية التي أوصلت ميشال عون لرئاسة الجمهورية، ليذكر بكل المشروع الإصلاحي القائم على البنود والمرتكزات الأربع، وفي رسالة وجهها إلى عون وإلى عدد من القيادات السياسية، ذكّر السنيورة بأن «الدول تتبنى برامج الإصلاح، التي هي بحاجة ماسة إليها، وتبادر إلى تنفيذها عندما تكون قادرة عليها، وليس عندما تصبح مجبرة على تنفيذها، عندها تكون العملية الإصلاحية قد أصبحت أكثر تعقيداً وأكثر إلحاحاً، ولكن عندها يكون تنفيذها قد أصبح أكثر كلفة وأكثر وجعاً وإيلاماً ولكن أكثر عرضة للأخطاء».
يشدد الرئيس السنيورة على أن بداية الخروج من الأزمة هي في «النظر للمستقبل، وتصحيح الخلل، وقبل كل شيء العودة إلى فكرة الدولة»، ويسوق مثالاً لذلك كمن يقود سيارة ويخطئ في الطريق، ويتوه في تفاصيل الأزقة. عليه بداية أن يعود إلى الطريق الرئيسي قبل الانطلاق مجدداً في الاتجاه الصحيح. هكذا «لا بد من إعادة الاعتبار لفكرة الشأن العام والدولة ودستورها ورجالها، وهو ما نفتقده حالياً».

ليس للدستور أي ضابط سوى حسن نية وأمانة الرجال الذين يطبقونه… وهنا يظهر الفرق بين السياسي ورجل الدولة

يؤثر عن الفقيه الدستوري النائب السابق حسن الرفاعي، أشهر من عارض على الدوام خرق الدستور أو استسهال تجاوزه، أنه في مقام إنكاره التوظيف المبالغ للدستور في الصراعات السياسية، يستشهد بقول العلامة الفرنسي الشهير ليون دوغي: «ليس للقانون الدستوري أي ضابط سوى حسن نية وأمانة الرجال الذين يطبقونه». وهنا يظهر الفرق بين السياسي ورجل الدولة.

السياسات السابقة»، لملمت آثار الحرب، وأعادت إعمار البنية التحتية للدولة من مطار ومرفأ ومستشفيات وطرقات رئيسية واتصالات وغيرها، وأعادت وصل لبنان بمحيطه.. ولم يتجاوز الدين العام حتى العام 2005 الـ35 مليار دولار! لكن الفساد وذهنية المحاصصة والانتهاب المقونن حال دون استكمال هذه الرؤية ووصلت الأمور إلى الانهيار. وهي مرحلة، بلا شك، لها وعليها.

الاصلاح الحقيقي، يكرر السنيورة، «هو عندما نكون قادرين عليه، لا مجبرين، لأنه سيكون حينها أكثر كلفة». وهذا ينطبق على السجال القائم حول اللجوء إلى صندوق النقد في الأزمة الراهنة. وبهذا المعنى أيضاً يمكن القول إن شركاء «المرحلة السابقة» وحتى الأمس القريب، لا يتنكرون لوقوفهم بوجه مشاريع الإصلاح وتسببهم بالهدر والفساد فقط، بل لأدوارهم في الانهيار الحاصل، وتدمير البلد، وعرقلة الحلول.