IMLebanon

كورونا وتجاذبات السـلطة المنقسمة والضائعة

كتب أحمد الزعبي في صحيفة “اللواء”:

يعيش لبنان منذ أكثر من ثلاث سنوات في ظل عهد استجلبَ سيلاً من الأزمات. الإرباك والارتكاس والعزلة والكيدية والتسرّع وغياب السياسات والكثير الكثير من الكلام الشعبوي وتجاوز الدستور.. سماتٌ تنطبق بدقة في وصف الطريقة التي يحكم فيها البلد. أزمة مواجهة فيروس «كورونا»، وهي تفترض تسجيل ملاحظات كثيرة، ليست سوى محطة من سلسلة كوارث رشّحت هذا البلد المنكوب لتصدّر لائحة الدول الفاشلة بلا منازع، حيث الانهيار والانحدار للقعر، كلاهما آخذٌ بالتوسع والتهام كل شيء.. كل شيء.

أن تعيش البلاد تحت وطأة مواجهة أزمة وباء عالمي، وأن تواجه إرباكاً نتيجة انفضاح عدم وجود بنية تحتية صحية ملائمة، فهذا شيء طبيعي لبلد يُدار منذ عقود بردات الفعل وثقافة الفساد وتجاوز الدولة، أما أن يتحول الوباء لفرصة للنهب والتشاطر والحربقة وتصفية الحسابات السياسية، فهذا يعني أنك في لبنان وفي ظل عهده الميمون.

الواقع أن فيروس «كورونا» كشف ضعف وهشاشة بنية الخدمات الصحية العامة في لبنان، وفضح إفلاس وتواطؤ الطبقة السياسية ضد الناس. عبثاً تحاول أحزاب السلطة ترميم تقصيرها المزمن ببعض الإجراءات الإغاثية، ليس من جيبها، بل من فوائد ما تمّ نهبه على مدى عقود. ومثله حفلات التسول المقزّزة، لدعم دولة فاشلة ونظام صحي غير موجود أصلاً، ولتلميع صورة جهات متورطة بالإفلاس والإهمال وتعطيل المرافق العامة لمصلحة الكارتيلات الخاصة. ماذا يعني أن تمنع المصارف وصول المودعين إلى أموالهم ثم «تتبرع» بفتات من أموالهم المنهوبة لتلميع صورتها؟ ومن هي الجهة التي تراقب وتضبط وتشرف على عمليات التبرعات لضمان وصول الأموال إلى الجهات المستحقة؟ أما أولئك الذين يتبرعون أمام الكاميرات بوقاحة لإذلال للناس في محنتهم وحاجتهم فصورة أقبح للنفاق غير المتناهي.

السجال القائم حول عودة اللبنانيين من الخارج، ليس إلا نسخة منقحة عن سجال، مذهبي طائفي مناطقي، سبقه حول من يتحمّل وصول فيروس «كورونا» إلى لبنان! لكن مسألة إعادة لبنانيي الخارج كشفت عن حال التصدع والإنقسام والإرباك والانحياز والهيمنة الذي تعانيه السلطة التنفيذية، وهو ما عبّر عنه رئيس مجلس النواب نبيه بري بقوله إن هناك من يتعامل مع موضوع الاغتراب والمغتربين وفق «حسابات سياسية، شعبوية وانتخابية»، رداً على تلكؤ الحكومة بحسم قرار إعادتهم، خصوصاً بعدما انكشفت عودة عدد من هؤلاء في أكثر من رحلة خارجية، بعد قرار إغلاق الأجواء، برعاية «صهر الجمهورية». الأزمة – وقد باتت نهايتها معروفة بعد كلام أمين عام حزب الله – تكشف تخبط وانقسام وتضارب أطراف ومكونات الحكومة التي باتت تمثّل سلطة منقسمة لكنها خاضعة في النهاية إلى إرادة رعاتها، وهي محكومة بصراع أجنحة وتجاذبات لا تنتهي وتنسحب على كل الملفات، من أزمة وباء «كورونا» إلى إعلان حال الطوارئ، إلى مشروع «الكابيتال كونترول» الملتبس والغامض وغير المأسوف عليه، إلى التعيينات وأزمة الإفلاس.. وصولاً إلى عدم طرح الخطة الإنقاذية الموعودة.

هي حال عامة من الفوضى وفقدان المبادرة التي تبلغ حدّ الاستهتار.. عينُ الناس على فيروس «كورونا»، رعباً وخوفاً وهلعاً، وعينُ «صهر الجمهورية» على التهام التعيينات المالية، ليس المسيحية فقط، بل السنية أيضاً!! في وقت يكتفي رئيس الحكومة حسان دياب بترؤس اجتماعات ماراتونية تكاد لا تنتهي، وهي أصلاً لا تسمن ولا تغني، وباصطناع انتصارات وهمية لحكومته اختصرتها النكتة غير المضحكة التي نقلتها عنه وزيرة الإعلام قبل فترة من أن الإجراءات التي اتخذها لبنان لمواجهة فيروس «كورونا» صارت نموذجاً لبعض الدول الأوروبية والعالم!!

ووسط فيض الكآبة هذا، يفتقد المواطن مقومات الصمود والمواجهة؛ غياب مدوٍ للخدمات العامة، أمواله محتجزة في البنوك، وما تيسر في يده منها فَقَدَ قيمته الشرائية أمام الدولار، في مقابل سوق سائبة وغير منضبطة ومفتوحة أمام جشع التجار، وغياب الرقابة… لا يعرف اللبناني ممن يشتكي؛ من الفيروس الخطير (وهو يمثّل تحدّياً جدياً وكبيراً يفترض تكاتفاً وتعاضداً وشفافية وسرعة)، أو من البنوك وشركات التأمين والتجار، أو من حكومة حائرة ومربكة وعاجزة، ومستلبة القرار؟؟ هنا تبدو الأوبئة أرحم مما يعيشه اللبناني في شبه الوطن هذا.

خيبة متوقعة

قبل ثلاث سنوات ونيّف، وُعد اللبنانيون بالأمن والرخاء وعودة الحركة الاقتصادية والسياحية والاستثمارية وانتظام عمل المؤسسات ومحاربة الفساد واستعادة هيبة الدولة، فإذا بهم يغرقون أكثر في وحول الفشل والمحاصصات والمحسوبيات والسمسرات والمناكفات وحسابات الإلغاء. ليست المشكلة عندَ مَن يواصل العمل وفق مصالحة وحساباته وطموحاته الزعاماتية وشعبوياته المشبوهة، بل في مَن يؤمن له الغطاء والشرعية، سواء من المرجعيات المنوط بها حماية الدستور والميثاق والصيغة أو من الأطراف السياسية المتمتعة بفائض القوة. الكارثة الأكبر أن من بين اللبنانيين من يستمر بالتصديق بأن الأمور قابلة للتحسن من دون اللجوء إلى تغيير جذري وكبير.

من يعرفُ السّاسةَ في لبنان، يعرفُ أنهم مصابون بداءِ الكلام، والإكثارِ منه بِنَهَمٍ كبير وبفائدة ومن دون فائدة، وخصوصاً في ما يتصل بموجبات المصالح السياسية والشخصية والحزبية، وكل الممارسة السياسية والشاشات والإذاعات والصحف تشهد بذلك، لكن الغريب إلى حدّ التعجب أن تبدأ الأمور بشعارات مطاطة فضفاضة عن الحكم الرشيد، والدولة والنظام والشفافية ومحاربة الفساد والتزام الإصلاح.. وكل المعارك الدونكيشوتية، لتنتهي تصفية حسابات، وتعزيز نفوذ، وتقاسم حصص ومغانم وتعطيلاً للمؤسسات، وخنقاً للنظام الدستوري وللتوازن الوطني.

غريبٌ ذلك التدثّر بالطوباوية الكاذبة، والعبث الكلامي الفضفاض. عندما يفتقد حسّ المسؤولية برعاية الشأن العام نكون أمام مشكلة أخلاقية تتطلب مراجعة وثورة، فكيف الحال إذا كانت الرهانات والمصالح والحسابات الخاصة لا تتورع عن الإفادة من الكوارث والأوبئة ووجع الناس!

للبنانيين أن يفرحوا، ولهم أيضاً أن يحزنوا، لما آلت إليه حال جمهوريتهم. لهم أن يطمئنوا ولهم أيضاً أن يرسموا ألف علامة استفهام على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم وما تبقى لهم من أحلام. لهم أن ينسوا أو يتذكروا.. ولهم أيضاً أن يسامحوا أو يغفروا لمن أوصلهم لهذا الدرك، لكن التاريخ لن يفعل، سواء أمام المآسي أو المهازل.