IMLebanon

حيُّنا والكورونا – الشويفات “الوادي”

كتب محمد نمر في صحيفة “نداء الوطن”:

زقزقت العصافير، وحان موعد النوم صباحاً، فلا قيمة للوقت في زمن “كورونا”، ولا لـ”الويك أند” فكل الأيام تشبه بعضها. ومن هنا، من داخل الحجر المنزلي أكتب لكم. هي مساحة 100 متر من إحدى الطبقات الثلاث لمبنى، يقع على ضفة “ساقية مياه” توهمنا طوال أشهر بصوتها أنها نهر جارف، وهي أشبه بالخط الفاصل بين منطقتي دير قوبل والشويفات، تتشابك فوقها الأشجار وتكسو ضفافها الأعشاب… إنه فصل الربيع والمشهد بات بـ”الألوان”.

لا سيارات تمر من هنا، ولا محال في المباني المجاورة، ولا ازدحام و”لا من يحزنون”. ولا صوت يعلو صوت الطبيعة والطيور. “عايشين بالأدغال” هكذا كان يقول لي والدي في كلّ زيارة، وشدّة الهدوء كانت تثقل جفونه وتدفعه إلى النوم، فمنزل والديّ، عند بداية حي الإمارة بجانب الخط العام في الشويفات، حيث أصوات الشاحنات والسيارات والفانات التي تقل الناس إلى “غاليري سمعان” أو راس النبع (فان رقم 4)، أو العكس باتجاه مفارق عرمون وبشامون أو خلدة فصيدا أو إلى الكولا، هناك ضجيج المحال والمدينة الشويفاتية. وبعيداً من تاريخها فهي اليوم تجسّد نموذجاً حقيقياً للعيش المشترك، وصحيح ان غالبية سكانها من الدروز، لكن “شو بدك في… دروز، شيعة، سنة، مسيحيين”، حتى للاجئين السوريين حصتهم من الشويفات، فيها الخلوات والكنائس والمساجد… إنها تحتضن الجميع. وعلى الرغم من أنني من بيروت ويقع منزلي “عقارياً” في “دير قوبل”، إلا أن الأمتار القليلة لعبور الساقية لم تمنعني من الشعور بانتمائي إلى الشويفات التي تعرفت عليها منذ بداية ظهور شعر لحيتي. ويُقال عن كل البيارتة الذين انتقلوا إلى الشويفات، عرمون، بشامون خلدة أنهم “من المهجرين” من مدينتهم بسبب غلاء أسعار الشقق.

برز اسم الشويفات كمنطقة آهلة بسكان مزارعين وأبناء أرض منذ العام 800 للميلاد، وكان النزوح إليها للوصول إلى منطقة سلام وتعايش. اشتهرت بزراعة الزيتون وصناعة الزيت والصابون، وأنشأ المتصرف العثماني أوهانس باشا مرفأ في الجية مخصصاً لتوريد الزيت الشويفاتي، “كانت تنعم بأكبر غابات الزيتون بعد إسبانيا وكاليفورنيا الجنوبية”، بحسب المؤرخ فيليب حتيّ، أما المتصرف يوسف باشا فرانكو الذي حكم الجبل عام 1907 فحوّل الشويفات في عهده إلى المقر الحكومي الشتوي لقضاء الشوف، لتستقل في ما بعد وتُلحق بأحيائها الثلاثة (العمروسية الأمراء والقبّة) بقضاء جبل لبنان، واجتاحها الاسمنت فباتت تضم أكبر المدن الصناعية في لبنان.

فرض علينا “كورونا” حجراً لم نكن نتوقعه، حتى زيارة الدقيقتين إلى الوالدين باتت “جريمة” فالعدوى تحاصر الجميع، و”لمسة واحدة للفيروس” قادرة على أن تحول أي بشري إلى قنبلة متنقلة تنفجر في حياة الآخرين.

المفارقة الأولى في أيام الحجر، هي التعرّف على العائلة من جديد، فالمهنة خطفت حياتنا من عائلتنا لسنوات. ازداد تعلّق طفلتَي مهى وورد بي، وبدأتّ اكتشف شخصيتيهما أكثر. وعلى الرغم من حال اليأس التي تطال كل هذه البشرية، إلا انني سُعدت بمشاركة زوجتي في تربية الطفلتين وتنمية شخصيتيهما، بعدما كان الأمر محصوراً بيوم واحد اعطيه لعائلتي نهاية كل أسبوع ويخطف منه أصدقائي القليل.

في الطبقة الأولى، أحد جيراني الذي عاهدته وعاهدني أن نبقى في المبنى سوياً وألا نغادر يوماً إلا بقرار مشترك، هو مايسترو في عالم الألحان الحساسة، بات التواصل بيني وبين محمود عيد، ويومياً، مقتصراً على الواتساب (فيديو كول)، علماً أن بضع درجات تفصل الطبقتين، في مبنى لا يسكنه اساساً سوى 4 عائلات، و5 شقق منه فارغة. الفرحة لا توصف عندما اجتمعنا بالصدفة في دار المبنى، كلّ بـ”كفوفه وكمامته”، وبيننا مسافة لا تقل عن 3 أمتار.

بداية دخول “كورونا” إلى لبنان، شعرنا باطمئنان جرّاء الاجراءات التي اتخذها الحزب “التقدمي الاشتراكي” في المنطقة، وباتت متابعة ابن الجبل وليد جنبلاط وتغريداته ضرورة. نسمع سيارة “الاشتراكي” من بعيد تحذّر وتدعو السكان إلى التزام المنازل، كما أن لـ”اللقاء الديموقراطي” ورشه في مواجهة الفيروس في المنطقة. معروف عن الجبل أنه يتّحد في وقت المحن. وهذا ما حصل أيضاً في أحداث “11 أيار” 2008، كان “جِفت” الارسلاني والجنبلاطي موحداً، والكتف على الكتف دفاعاً عن الجبل وسكانه، فهنا “لا فرق بين شيعي وسني ودرزي”. وهذا ما يحصل الآن ولو “عن بعد أو جفاء”… “الله يسامح يللي كان السبب!”.

الخروج من المنزل بات أشبه برحلة إلى سطح القمر. “قفّازات” باليدين و”كمّامة” على الوجه و”جلّ تعقيم” هي رفيقة الدرب. عند أول تقاطع حرّاس بلدية الشويفات على كامل الاستعداد، اقفلوا بعض الشوارع الفرعية للتمكّن من مراقبة الداخلين والخارجين، و”من دون أي ازعاج” تمر بجانبهم بـ”يعطيكم العافية”، فهؤلاء أيضاً جنود في زمن “كورونا”، لا صوت سوى صوتهم، الشوارع فارغة وخط “طريق صيدا القديمة” كما يحلو للبنانيين تسميته، وهو الفاصل ما بين الشويفات والضاحية الجنوبية، خالٍ من المارّة، لكنه لم يخل من السيارات التي قلّ عددها مقارنة بازدحام الأيام العادية. المحال مغلقة، فقط المحطات ومحال المواد الغذائية والتحويلات المالية والصيدليات جاهزة لاستقبال الناس، “واحد واحد” وبكثير من الحذر، “بتدفع إلي عليك وبتاخد المصاري مبلّلة” بمواد التعقيم، مصدوماً من ارتفاع الأسعار.

زمن المصافحة انتهى، يكفي رفع اليد من بعيد كإشارة سلام، حتى الابتسامة من الصعب ملاحظاتها، تخفيها كمّامة الوقاية من “كورونا”، وإذا كان الوجه مكشوفاً فهو إما في ملامح حذر أو احباط. يوميات باتت مؤشراً إلى أن العالم يتغيّر، أصبحنا جميعاً نعيش داخل العالم الافتراضي، هناك كل شيء موجود… حتى “زقفة الأبطال” للممرضين والقطاع الطبي تشاركتها مع اللبنانيين عبر “الواتساب”… لا خطط للغد ولا مواعيد… فقط قلق وتوتر ليس من “كورونا” فحسب بل ما بعد بعد بعد “كورونا”ّ!