كتب نجم الهاشم في صحيفة نداء الوطن:
26 نيسان 2005: جلاء الجيش السوري من لبنان
عندما وقف رئيس النظام السوري بشّار الأسد في دمشق في 5 آذار 2005 ليعلن من مقر مجلس النواب قرار سحب جيشه من لبنان كان يدرك أنه دخل في مواجهة أكبر مما يمكن أن يتحمّله. دخل الأسد إلى القاعة وسط عاصفة من التصفيق لم تستطع أن تغطي على ملامح الهزيمة التي كست تعابير وجهه وكلماته وطريقة أدائه. كانت ثمّة مرحلة تنطوي لتضع حدّاً لثلاثين عاماً من احتلال لبنان.
في 20 تموز 1976 وقف الرئيس حافظ الأسد في جامعة دمشق أمام هيئات الإدارات المحلية ليلقي خطابه الشهير ويروي فيه قصّة دخول جيشه إلى لبنان. كانت قسائم وجهه ونبرات صوته توحي بكثير من النصر والإعتزاز بالنفس على أبواب مرحلة جديدة أعطي له فيها أن يلعب أدواراً كبيرة. قال يومها إنه عندما أمر بدخول قواته إلى لبنان لم يأخذ إذناً من أحد وأنّه اتصل بعدما أصبحت هذه القوات داخل لبنان بالرئيس سليمان فرنجية ليعطيه علماً بذلك. كان حافظ الأسد قد دخل على خط القرارات الإستراتيجية في المنطقة وكان يبدأ رحلة السيطرة على القرار اللبناني ويمهد لحروب شرسة مع معظم الأطراف اللبنانية مستفيداً من عامل القوّة ومن التسليم الدولي بهذا الدور. بينما كان ابنه بشّار بعد ثلاثين عاماً يعلن انتهاء هذا الدور وهذا التسليم الدولي به وينكفئ نحو حماية ما تبقى من النظام الذي تركه له والده. في خطاب الدخول صفق الحاضرون للأسد الأب. وفي خطاب الخروج صفقوا للأسد الإبن.
الجانب الخاطئ من التاريخ
منذ دخل الجيش الأميركي إلى بغداد في 9 نيسان 2003 وأسقط نظام الرئيس العراقي صدام حسين بدا أن خريطة المنطقة تتمزّق وأن أنظمة كثيرة ستتغيّر ودولًا كثيرة ستهتزّ. ولم يكن نظام بشّار الأسد بعيداً من هذه الصورة. في 5 أيار 2003 بعد أقل من شهر على احتلال بغداد وبعدما كانت القوات الأميركية تمركزت على الحدود بين سوريا والعراق ووقفت على المعابر تدقّق في هويات العابرين كان وزير الخارجية الأميركي كولن باول يحطّ في دمشق ليلتقي الأسد ويبلغه الشروط الأميركية التي يجب أن يلتزم بها من أجل أن يتمكّن من الإستمرار.
بعد هذا اللقاء المفصلي حذّر باول سوريا من انها ستجد نفسها “على الجانب الخاطئ من التاريخ” إذا هي لم تتوافق مع الرؤية الاميركية للشرق الاوسط بعد سقوط نظام صدام حسين.
وقال إنه ينبغي أن يكون لدى الرئيس السوري بشّار الاسد “كل حافز للإستجابة” لما أثاره معه خلال محادثاتهما في دمشق في ما يتعلّق بالتغيّر الاستراتيجي في الشرق الاوسط بعد سقوط نظام صدّام. وأكّد:”ما قلته له (الاسد) بوضوح هو أن هناك أشياء نعتقد أنه يجب عليه عملها إذا كان يريد علاقة أفضل مع الولايات المتحدة وإذا كان يريد أن يلعب دوراً مفيداً في حلّ الأزمة في المنطقة”.
وكان باول قد قدم لائحة مطالب إلى الأسد منها إقفال مكاتب المنظمات الفلسطينية في دمشق ولجم “حزب الله” وتسليم القادة العراقيين السابقين الذين لجأوا الى بلاده.
انتهاء زمن اللعب مع الكبار
أدرك الأسد خطورة المرحلة. كان عليه أن يستجيب أو أن يواجه ولم يكن هناك مجال للمناورة لأن زمن اللعب مع الكبار كان قد انتهى وأن قرار إخراج جيشه من لبنان كان قد اتخذ بالتزامن مع التحضير لـ “قانون محاسبة سوريا” في الكونغرس الأميركي الذي تحول لاحقاً إلى القرار 1559 الذي أصدره مجلس الأمن في 2 أيلول 2004 والذي ينصّ على سحب الجيش السوري من لبنان ونزع سلاح “حزب الله” وتأمين إجراء انتخابات رئاسية في لبنان وفق المهل الدستورية ووفق ما يقتضيه الدستور.
في كتابه “أجمل التاريخ كان غداً” يروي نائب رئيس مجلس النوّاب إيلي الفرزلي أنه دخل في صيف 2004 في حوارات مع رئيس المخابرات السورية في لبنان العميد رستم غزالي وعقد معه أكثر من لقاء وأن غزالي دعاه إلى مرافقته إلى دمشق مع النائب جان عبيد للبحث في موضوع انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ويقول الفرزلي إنه في اليوم المحدد في 25 آب 2004 “كنت في عنجر تحضيراً لذهابنا إلى دمشق، فإذا برستم غزالي يفاجئني بالقول: “تغيّر الوضع كليّاً. سيادة الرئيس يريد أن يقابلك وحدك. يجب أن تذهب إلى مقابلته”. في اللقاء مع الرئيس بشّار الأسد أسهبت في مطالعة لنصف ساعة عن أضرار استمرار إميل لحود رئيساً للجمهورية وبيّنت الأخطار الناجمة عن هذا الإستمرار على الداخل اللبناني. ختمت كلامي بإشارة تحذيرية: التمديد هذه المرّة سيؤدي إلى سقوط النظام”.
قرّروا إخراجنا من لبنان
لم يحدد الفرزلي عن أي نظام كان يتحدث. النظام السوري أم اللبناني؟ ولكنّه تابع: “استمع إلرئيس الأسد إليّ باهتمام قبل أن يعقّب: “قد يكون كل ما تقوله له أسبابه ومسبباته. إنّني أنظر بإيجابية حيال انتخاب جان عبيد رئيساً للجمهورية فهو صديق. لكن الأميركيين والفرنسيين اجتمعوا وقرّروا إخراجنا من لبنان”. شعرت بعبء ما قاله بشّار الأسد وجديّته. قلت: “حسنًا لنترك جان عبيد ولنبحث عن مرشح آخر يصلح للمرحلة المقبلة ويكون أكثر استعداداً للدفاع عن هذا الخط، فليكن سليمان فرنجية”. قال الأسد: “ليس الآن وقت التجربة”. سألته: “من إذا؟” أجاب قاطعا: “الرئيس لحود أخلص لنا وللمقاومة”. قلت: “إذًا اتخذتَ قرارًا بتمديد ولايته”. هزّ برأسه: “نعم… إنه كذلك. إميل لحود دافع عن المقاومة وعن سوريا واختبرناه ونجح في الإختبار”. قلت: “ليكن. أنا أحارب التمديد كوجهة نظر ومن حيث المبدأ، ولكنني لست في صدد التعارض مع قرار اتخذته سيادتك”. سألني: “ماذا تقترح؟ هل أرسل في طلب نبيه (بري) ورفيق (الحريري) معا؟” قلت: “هما زعيمان سياسيان ولكل منهما حيثيته الخاصّة. أرسل في طلب كل منهما على انفراد”.
موعد في دمشق
في 26 آب 2004 استقبل الأسد الرئيس بري ثم الرئيس رفيق الحريري وأبلغهما قرار التمديد للحود. في ذلك الإجتماع مع الحريري هدّده الأسد بهدم لبنان على رأسه ورأس وليد جنبلاط إذا لم يمشِ بالتمديد. كان هناك تحضير لموعد مع جنبلاط في دمشق ولكنه من فندق البريستول أعلن أنه لن يذهب إلى هناك فتمّ تسريب خبر عن أنه لم تكن هناك أي دعوة له وأي موعد لاستقباله. سقط خيار ترؤس الحريري حكومة التمديد الأولى. اعتذر. كان القرار بتكليف عمر كرامي في 21 تشرين الأول. بعد ستة أيام صدرت مراسيم التأليف وكان الفرزلي وزيراً للإعلام. في 10 تشرين الثاني التقى الأسد فسمع منه تأييداً راسخاً لكرامي وحكومته. بعد 15 يوماً فقط التقاه ثانية وكانت الضغوط الدولية قد اشتدّت عليه. عرض الأسد أمام الفرزلي سلسلة التطورات منذ صدور القرار 1559 وقال: “عرضوا علي البقاء في البقاع. لن أبقى فيه. سأنسحب من كل لبنان وأعود إلى سوريا. أتوقع أن تهبّ عليّ عواصف عاتية، لكنني سأمترس للدفاع عن البلاد”.
خطة المواجهة للبقاء
ولكن الأسد لم يختر الإنسحاب من دون خطة للمواجهة. كان يدرك ما ينتظره ويعرف أن إجباره على الإنسحاب من لبنان سيؤدّي إلى محاصرته في سوريا لأن معالم المرحلة والتغيّرات كانت مكشوفة وواضحة وكان قد قرأ بإمعان ما حمله إليه كولن باول قبل عام. خاض مع “حزب الله” حرب البقاء في لبنان لأنّهما كانا ولا يزالان في خندق واحد ويدركان أن معركتهما واحدة. كان الرهان على أن القرار 1559 لا يمكن أن ينفذ بغياب قوّة لبنانية داخلية تلاقي القرار الدولي. في أول تشرين الأول جرت محاولة اغتيال النائب مروان حماده وبدأ بعده وضع خطة اغتيال الرئيس رفيق الحريري موضع التنفيذ وفق ما جاء لاحقاً في تحقيقات لجنة التحقيق الدولية الخاصة بقضية الإغتيال.
كان قرار اغتيال الحريري محاولة لتجميد تنفيذ القرار 1559 في لبنان بغضّ النظر عما إذا كان هو شخصياً له دور فيه وذلك عن طريق القضاء على التحالف الذي كان بدأ يظهر بينه وبين البطريرك مار نصرالله بطرس صفير والنائب وليد جنبلاط ولقاء قرنة شهوان. ولكن زلزال الإغتيال في 14 شباط 2005 فجر زلزال انتفاضة 14 آذار. في تقديرات كثيرة أنه لو لم يخرج الناس إلى الشارع بعد تشييع الحريري ولو لم تظهر متانة المعارضة للوصاية السورية على لبنان ولدور “حزب الله” وسلاحه لما كان بشار الأسد انتظر حتى 5 آذار 2005 ليعلن قرار سحب جيشه من لبنان. تظاهرة 8 آذار 2005 للتمسك ببقاء ذلك الجيش في لبنان والقول شكراً للنظام السوري لم تكن إلا محاولة يائسة لا يمكن أن تبدّل في اتجاه الأحداث. لقد اختار الأسد أن يقف في الجانب الخاطئ من التاريخ الذي كان قد تحدث عنه كولن باول في أيار 2003 وكان يعرف أنه لا بدّ سيدفع الثمن.
الوداع الأخير
في 26 نيسان 2005 عندما كانت آخر قافلة لذلك الجيش الذي دخل لبنان في العام 1975 تغادر عن طريق المصنع كانت تفتح صفحة جديدة من تاريخ لبنان. في مطار رياق العسكري كانت تجري مراسم الوداع الرسمية بينما كان رستم غزالي يقفل أبواب مقرّه في عنجر ويمشي بين من أتوا لوداعه وكأنّهم يسيرون في مأتم ويستقل سيارته مطأطئًا رأسه ويعبر طريق المصنع في اتجاه دمشق في رحلة إلى الديار من دون عودة. بعد عشرة أيام، في 5 أيار، كان يتم اغتيال سمير قصير في بيروت. وفي 21 منه يتم اغتيال جورج حاوي. ذهب بشّار الأسد ليدافع عن نظامه من الداخل وتفرّغ “حزب الله” لحماية سلاحه في لبنان. بعد ستة أعوام كانت الحرب تبدأ في سوريا. بشّار الأسد عاجز عن البقاء. “حزب الله” ينجده. كادا يسقطان معاً لولا النجدة الروسية. إنها العواصف العاتية التي تحدث عنها بشّار. وسيمرّ وقت طويل قبل أن يفكر بالعودة إلى لبنان. هذا إذا بقي في بعض ما تبقى من سوريا.