IMLebanon

وحش الغلاء يفترس الفقراء… والقطايف حلوى “الصائمين”

كتب محمد دهشة في صحيفة “نداء الوطن”:

تحوّل الغلاء وحشاً يفترس الفقراء وما في جيوبهم، ويترك أمعاءهم خاوية. لم يعد بمقدورهم شراء كل ما يحتاجونه بسبب ارتفاع الاسعار أضعافاً مضاعفة، نتيجة الأزمة الاقتصادية والضائقة المعيشية الخانقة. وجاء فيروس “كورونا” ليصبّ الزيت على نار الفقر وجعاً، ثم شهر رمضان المبارك، لتعيش صيدا ولا سيّما الأحياء القديمة الشهر الفضيل، بنمط مختلف تماماً عن السنوات السابقة، لم يقتصر على إقفال المساجد وتعليق صلوات “الجمعة والجماعة والتراويح”، او إغلاق المقاهي الشعبية وإختفاء الزينة، انما غاب قسراً الكثير من أنواع الطعام والحلويات والعصائر على موائد الصائمين، وخصوصاً صحن الفتوش وشراب الجلاب والتمر والعرق سوس وسواها، لكن “القطايف” وحدها حافظت على حضورها، اذ بقيت أسعارها رخيصة، قياساً على أصناف الحلويات الأخرى.

في الحارات القديمة، تستمرّ دورة الحياة لكنها متثاقلة، قرّر الناس الاستغناء عن الضروريات وترتيبها وفق الأولويات، بعدما نسوا سابقاً الكماليات. البعض تخلّى عن صحن الفتوش اليومي الذي يُعتبر من الأطباق الرئيسية، والبعض الآخر عن الفواكه، والبعض الثالث عن الحلويات مثل المدلوقة وحلاوة الجبن والحدف وزنود الست والكلّاج ليعكس ذلك بوضوح مدى تأثرهم بالغلاء والضائقة التي يئنّون تحت وطأتها. وحدها “القطايف” الحلوى المُحبّبة في رمضان، حافظت على حضورها ولقبها “أميرة الحلويات”، تتربع غروب كل يوم على موائد الصائمين بإعتزاز الى جانب حبات التمر وبعض العصائر من الجلاب والتمر هندي والتوت وعرق السوس”.

ويقول الشاب محمود مزين، وهو ينهمك بصبّ القطايف في ساحة “باب السراي”:”لم يرتفع سعرها كثيراً، لذلك حافظت على حضورها على موائد الصائمين، فهي الأرخص والأطيب في رمضان”، مشيراً الى أن اهتمام الناس لم يعد يصل الى الحلوى، بل يتوقّف عند حدود تأمين قوت اليوم، في ظل توالي أمواج الغلاء العاتية والمتلاحقة يومياً والتي تكاد تدفعهم الى الجنون”.

الغلاء والتكافل

حيثما جلت في الأحياء، يتردّد صدى الشكاوى من الغلاء وجعاً لا ينتهي، ومفتوحاً على هواجس الخوف من الأيام القادمة، ضرب ارتفاع الأسعار كل شيء ووصل المواطن الى عنق الزجاجة، اما جشع التجار واحتكارهم، فيقول مختار “حي الكنان” خالد السنّ لـ “نداء الوطن”: ” تبدو الناس هائمة على وجوهها لا تعرف ماذا تقول او تفعل وكيف تواجه هذه الأزمة الخانقة، من الأزمة المالية الى الثورة الى “كورونا”، فجأة تحوّل المُعيل عاطلاً عن العمل وأُسرته في مهبّ الريح”، مشيراً الى “ان ما يُخفّف المعاناة في صيدا القديمة ان التكافل الاجتماعي وبالرغم من كل شيء، ما زال موجوداً بين الناس، يتقاسمون “لقمة الخبز” و”شربة المي” ويعضّون على الجرح على أمل الفرج القريب”، مشيراً الى ان خيّرين كثراً استبدلوا الافطارات الرمضانية بمساعدات مالية او غذائية او بوجبات ساخنة”، مُتحدّثاً عن نموذج يُحتذى لموظفة أبت الا أن تُساهم في مساعدة بعض العائلات المتعفّفة في الحي بمبلغ مالي من دون ان تعلن عنها”، خاتماً: “الخير بالسرّ أجدى وانفع”.

ويقول الحاج محمد بوجي: “صار عمري 78 سنة ولم أشهد في حياتي أخطر من وباء “كورونا”، ولم أعش قبل مثل هذا الغلاء الفاحش الذي يأكل الاخضر واليابس ولا يرحم الفقراء، حتى الصنف ذاته يُباع في دكان بسعر، وفي آخر بسعر مختلف”، قبل أن يضيف “ولم أر بحياتي صيدا حزينة مثل اليوم، لقد سرق الفقر المدقع والجوع والبطالة الفرح من الناس، وصلت الى قناعة بأن الدعاء ليس وحده الحل، يجب ان تنهض الناس للدفاع عن حقوقها المشروعة بطريقة سلمية من اجل العيش بكرامة بعيداً من ذلّ السؤال، الكرامة أهمّ شيء”.

قطايف واسعار

وتحت قباب حجرية، نافذة شارع “الشاكرية” الى صيدا القديمة، يصبّ المعلم حسن العوجي، الذي ورث المهنة عن أبيه وقبله جده، العشرات من القطايف، يسكب الخليط فوق صفيح من حديد ساخن، قبل أن يجفّ على النار، ويصبح عجينة القطايف، فينقلها على الواح من الخشب لعرضها للبيع والتفاوض مع الزبائن حول اسعارها.

ويقول العوجي لـ”نداء الوطن” إن هذه الحلوى (القطايف) مكوّنة من الطحين والحليب والزيت والمياه، تُخفق جيداً ثم تصبّ على فرن مسطّح من النار لتجفّ بقطع صغيرة أو كبيرة، ولاحقاً يتمّ حشوها بالقشدة أو الجبنة او الجوز ثم نصبّ عليها “القطر” (السكّر الذائب) لكي تصبح جاهزة للأكل”.

ويوضح “ان سعر الكيلو يبلغ 5000 ليرة لبنانية وهي رخيصة قياساً على اسعار الحلويات الرمضانية الاخرى، وفي ظل تردّي الاوضاع الاقتصادية والمعيشية للمواطنين”، قبل ان يؤكد أن “الاقبال عليها يكون كثيفاً أكثر لو لم يرتفع سعر “القشدة”، كذلك حال الجبنة وهذا ما يدفع بالناس لحشوها بالجوز أو “المهلبيّة” للتوفير على انفسهم أعباء مالية اضافية.