IMLebanon

المدارس الخاصة تُحتضر و”معاليه” لا يرسو على برّ!

كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:

إلتقى عدد من المطارنة والآباء في ردهة إحدى المدارس وفلشوا أوراق ملف المدارس الخاصة في لبنان وخرجوا بملاحظات واقعية هي لسان حال أطراف الموضوع الأربعة: الأساتذة: نحتاج أن نقبض رواتبنا. المدارس الخاصة: كيف ندفع إذا لم نقبض؟ وزير التربية: إبحثوا عن حلٍّ. لجان الأهالي: أولادنا خط أحمر. الدولة: لا توقظوني!

كلما طُرح ملف التعليم الخاص في لبنان يطنُ في آذان المطارنة والآباء سؤال ملغوم: ماذا عن دور الكنيسة في هذه المحنة؟ السؤال لا يُحرج هؤلاء لأنهم على يقين أن الكنيسة التي نجحت في التأسيس لأفضلِ تعليم ليست هي المسؤولة عن تلكؤ الدولة عن إتمام واجباتها تجاه مواطنيها. فالكنيسة ليست من تتقاضى الضرائب. والكنيسة ليست الدولة. والكنيسة تضم في مدارسها الكاثوليكية 250 ألف طالب وطالبة بينما يوجد في المدارس الخاصة ما يزيد عن 750 ألف طالب وطالبة… فمن هو المسؤول عن 500 ألف طالب وطالبة ليسوا في عداد المدارس الكاثوليكية إذا سلمنا جدلاً أن الكنيسة مسؤولة عن 250 ألفاً؟ تكرج الأسئلة على الألسنة في ملفٍ يجهل كثيرون، أو يتجاهلون، علام هو مفتوح!

“ما في طرح ما في أمل”! حين يردد أحد الآباء هذه العبارة بمرارة نعرف ان الملف يكاد يخرج، كي لا نقول خرج، من أيدي الجميع.

يرجع الآباء، المسؤولون عن المدارس الخاصة، الى البيانات والخطابات التي تصدر عن وزير التربية فلا يجدون عبارة واحدة يتحدث فيها عن مدارس لبنان وتلاميذ لبنان. هو يتحدث دائماً عن طلاب المدارس الحكومية وكأن البقية ينتمون الى دولة غير الدولة! فهل هذا جائز؟ هل يجوز تقسيم الملف الى ملفات، في شكل ضبابي مطاطي، من دون أن تلحظ وزارة التربية في لبنان مستقبل لبنان التعليمي؟

نحن بالفعل أمام كارثة حقيقية إذا لم تشعر بها الدولة الآن فسيدفع ثمنها اللبنانيون من اللحم التربوي الحيّ.

الكلّ أجمع أن المدارس الخاصة “حراميي”. فلنحسم هذه الفرضية ونقول منعاً للجدال: نعم. لكن، ماذا بعد؟ ماذا عن المقاربة التي قد تعطيها الدولة لما بعد هذه الجدلية؟ يوجد، بحسب رئيس أساقفة أبرشية بعلبك- دير الأحمر المارونية المطران حنا رحمة، 71 ألف معلم ومعلمة وموظف في المدارس الخاصة فماذا سيكون مصير هؤلاء؟ وماذا عن مصير 250 ألف طالب وطالبة ليس هذه السنة فقط بل في سنوات قادمة عجاف؟ هو قطاع طويل عريض مجهول الأفق من يتحمل مسؤوليته؟

الثابت حتى هذه اللحظة ان ما بين مئة وخمسين الى مئتي طالب وطالبة في المدارس الخاصة لن يتمكنوا من العودة إليها مجدداً. فهل ستتمكن المدارس الرسمية التي تضم اليوم نحو 150 ألف طالب وطالبة إستيعاب العدد الجديد؟ لا مقاربة ولو تقريبية للتعليم في لبنان لا لدى وزير التربية ولا لدى الدولة بأمها وأبيها. وهنا يطرح رئيس المدرسة الأنطونية الدولية الأباتي داوود رعيدي هذه المعضلة بمرارة قائلاً: نحن أمام مشكلة حقيقية تتمثل بمغادرة ما لا يقل عن مئتي ألف طالب المدارس الخاصة فإلى أين يتجهون؟ نجول بين الآباء والمطارنة في بحث مضنٍ عن مقاربة معقولة نوعاً ما في ملف شائك جداً. هناك في المدارس الخاصة أستاذ لكل عشرة طلاب أما في المدارس الحكومية فهناك أستاذ مقابل كل خمسة طلاب. أساتذة المدارس الحكومية يقبضون رواتبهم أما أساتذة التعليم الخاص فقبضوا بغالبيتهم نصف معاش عن آذار ونيسان. فماذا عن أجورهم هذا الشهر وما سيليه؟ ماذا عن الطلاب الذين نووا ان يترشحوا الى البكالوريا الفرنسية؟ الأهالي لا يريدون أن يدفعوا وربما يملكون كل الحق في ذلك فهم “معدمون” إما بسبب البطالة التي وقعوا فيها أو بسبب حجز المصارف أموالهم. فهل نضع المدارس الخاصة في فوهة الأزمة مع الأهالي؟ هذا يبدو للدولة أفضل الحلول. فالدولة اعتادت، من زمان، أن ترمي أزماتها على الآخرين.

هل معنى هذا أن نترك الدولة لحالِها ونتصرف لحالنا؟ السؤال صعب. المدارس الخاصة في لبنان تلفظ الحياة. والأهالي في الدرك المظلم والطلاب يجهلون أنهم سيكونون كبش المحرقة. فالمدارس الخاصة، التي لم تفلس حتى اللحظة، ستفلس بعد حين. والأساتذة فيها سيصبحون قريباً جداً أعداداً إضافية على لائحة العاطلين عن العمل.

مئتا طالب وطالبة لن يجدوا قريباً جداً كرسياً مدرسياً. فهل فكر “معالي وزير التربية” كيف ستأويهم المدارس الرسمية في السنة المقبلة؟ هل فكر بالمباني التي يحتاجون إليها وبالأساتذة الجدد، وعددهم يفترض ان لا يقل عن عشرين الفاً، الذين يفترض ان يؤمنوا التعليم الرسمي؟ وكم سيُكبدون الدولة “المفلسة” في المدى القريب؟

كل الطروحات اليوم مداها: حلّ موقت للأزمة يتضمن إنهاء العام الدراسي الحالي بالتي هي أحسن والبدء من جديد ذات يوم في حزيران او تموز او ايلول… لكن، هل ستصمد المدارس الخاصة وأساتذتها؟ وإذا صمدوا، هل ستتمكن تلك المدارس من المحافظة على كفاءاتها التعليمية وقدراتها التي ميّزت التعليم في لبنان؟ وزير التربية يُبدل كلامه في الدقيقة الواحدة ستين مرة ما يؤكد أنه يتكلم ليتكلم بلا رؤية واضحة ولا بعد نظر. هو آدمي لكنه لا يملك لا خطة ولا أي طرح حيوي ولا “بعد نظر” ولا حتى ثباتاً في الرؤية والتعليل والتفسير. هل يعرف الوزير شيئاً عن المدارس الخاصة القادرة على إيواء هؤلاء الطلاب بعدما فقد أساتذتها ثقتهم بها؟ معالي الوزير سيكرر ما قاله للمدارس الخاصة ذات يوم: “ضبوا” التلاميذ، كمن يقول “للجارة”: ضبي ولادي! فما محل الدولة هنا في الإعراب؟ هل يفترض بالمدارس الخاصة ان ترسل طلابها الى “ساحات بكركي” ليلعبوا ما دام هناك من يُحمّل الكنيسة مسؤوليتهم؟ هل تعرف وزارة التربية ان انتقال لبنان من النظام الرعائي الى النظام الانتاجي يحتاج الى سنوات وسنوات والطلاب لا يمكنهم، كما لا يمكن لمدارسهم، تحمّل كل هذا الوقت بلا خطط على قاعدة “ندخل في وكر الدبابير وعلى الله التدبير”؟ أرباب المدارس الكاثوليكية والخاصة لا يتوقفون عن التفكير في ما قد يحصل بعد شهر وشهرين وسنة وسنتين… وماذا بعد؟ لجان الأهالي يجتمعون مرددين “أولادنا خط أحمر” ومعهم كل الحقّ لكن ماذا بعد ان يصبح التعليم الخاص خطاً أحمر؟

نسيت الدولة ان التعليم مسؤولية الدولة كما ان الجيش مسؤولية الدولة وموظفو القطاع العام مسؤولية الدولة. فأين الحلّ؟

المدارس الخاصة لا تنتظر (ولن تنتظر) مساعدات خارجية لأنها مدركة تماماً أن لبنان، لأسبابٍ معلومة، على لائحة المساعدات، والحلّ الممكن اليوم هو أن تتكفل الدولة بدفعِ رواتب الأساتذة في التعليم الخاص لأنها لن تكون قادرة، إذا اقفلت هذه المدارس، على استيعاب طلاب لبنان في المدارس الخاصة في نطاقها. هو حلٌ ترتئيه المدارس الخاصة لكنه قد يبدو محالاً بالنسبة الى دولة، كسرت يديها الإثنتين وتشحذ. الملفات المتهالكة كثيرة في لبنان لكن التعليم يفترض ان يكون قبل الخبز غالباً. فهل لدى الدولة متسّع من الوقت على التفكير بهذا الملف بجدية؟

أزمة المدارس الخاصة في لبنان وجودية، وبكركي بصدد الدعوة الى اجتماع موسع في الأسبوعين المقبلين خصوصاً ان مدارس كثيرة تفكر جدياً بإقفال أبوابها ولا بُدّ أن تتخذ هكذا قراراً قبيل الرابع من تموز، بموجب القانون رقم 515 الذي يسمح للمدرسة ان تقفل ابوابها وتُسرّح أساتذتها وإلا اضطرت ان تدفع لهم أجور السنة التالية.

المدارس الخاصة، بحسب دراسة أولية أجرتها، قبضت عن أول فصل 35 في المئة من المتوجبات و18 في المئة عن الفصل الثاني، وهي تتوقع أن تلامس النسبة الصفر في الفصل الثالث. وهذا معناه أنها فقدت رصيدها. و”ما إلها عين تطالب الأهالي بسداد المتوجب عليهم” لأن “من أين لهم أن يدفعوا”.

هو البكاء على الأطلال في دولة فقدت كل مقوماتها ولم يبق إلا “صيت التعليم الحسن” فهل يصبح التعليم في لبنان في خبر كان؟

لجان الأهالي يعقدون اجتماعاً تلو إجتماع و”معاليه” يُبدل رأيه “رأياً بعد رأي” والعقدة تتأزم. فكم فاتورة هذا البلد باهظة حين يفقد طلاب لبنان كلّ الأفق ويُصبح التعليم “شدّاً ومطّاً” والأستاذ “جائعاً”! تُرى أي لبنان هذا ننتظره؟