IMLebanon

“المفتي الممتاز” يهبط إلى درجة “المفتي غير المقبول”!

كتب علي الأمين في “نداء الوطن”:

ليس من باب المصادفة أن يكون منصب “المفتي الجعفري الممتاز” يُخبئ في عباءته وتحت عمامته، موقعاً مفصلاً على قياس الشيخ عبد الأمير قبلان ونجله من بعده أحمد، يدوم لمدى الحياة خلافاً لكل المفتين والمناصب الدينية الرفيعة في كل الطوائف، وهذا ما يفسر وراثته وتجييره من الأب إلى الأبن، وهو الأرفع شأناً بين المفتين، وما يجعله “ممتازاً” هو تكليفه حصراً بمهمة تبديل المذهب مع تمييزه بالراتب عن أقرانه من المفتين، و كذلك تبديل المواقف والطروحات بحسب البورصة الإقليمية، لكنه يرسب في الإمتحان وتهبط “علاماته” ودرجاته لدى العامة والخاصة إلى مستوى أقل من “مقبول”!

اذاً “المفتي الممتاز”، لعلها من العبارات التي تثير التساؤل حول مغزاها ودلالتها، فـ”الممتاز” هنا يدلل على ان ثمة مفتياً آخر غير ممتاز، لا يُعرف ان كان أقل من ممتاز أو أكثر، والمفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان، الذي جرى اختياره في هذا المنصب وهو في العشرينات من عمره، لم تكن ميزته الا انه نجل متولي المنصب آنذاك الشيخ عـبد الأمير قبـلان الذي تولى رئاسة المجلس الشيعي بعد وفاة الراحل الكبير الامام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وتخلى عن موقع المفتي الممتاز لنجله الشيخ أحمد قبلان في العام 2003.

ولم يكن المفتي الممتاز الشيخ احمد قبلان ليصل الى منصبه هذا لولا هذا النظام الطائفي ونظام المحاصصة والزبائنية، الذي يوفر له امتيازات مالية كمفتٍ وموازنة مالية من مال الشعب اللبناني يقوم بالاشراف على صرفها بلغت عشرات المليارات منذ توليه المنصب الى اليوم، ادرجت في الموازنات العامة، وغيرها من موازنات الحراسة والمرافقة وهي من موازنة قوى الأمن الداخلي.

هذا النظام اللبناني الطائفي، ينعم على المفتي الممتاز قبلان وأمثاله من مفتين بمكاسب ومنافع مميزة مقابل لا وظيفة فعلية او مهام محددة يقومون بها في اطار المؤسسات الرسمية، اللهم الا مهمة حراسة النظام الطائفي.

وهذا النظام اللبناني هو ما اتاح للمفتي الممتاز الشيخ قبلان ان يتولى المنصب، لا لشيء الا لكونه نجل من كان يتولى مركز الافتاء، وبالتأكيد كان يعلم ان لدى الشيعة من هم اكفأ وأكثر خبرة وأعلم منه فقهياً ودينياً، ولكن هو من جرى تنصيبه ولمدى الحياة، ودائماً بفضل نظام المحاصصة والزبائنية السياسية والدينية ليس اكثر.

ترهّل وضعف

كان المفتي الممتاز سيكون منسجماً مع ما قاله في رسالة عيد الفطر عن الغاء النظام والصيغة الطائفية، لو بادر الى الدعوة الى الغاء مراكز الافتاء او فصلها عن النظام والدولة، وسيكون مقنعاً اكثر للبنانيين لو أعلن استقالته من منصبه، وتخلى عن الامتيازات التي يوفرها له هذا “النظام البغيض” من رواتب وموازنات وخدم وحراسات، وسيسجل له بالفعل انه منسجم مع قناعاته وبدأ بدكّ أعمدة هذا “النظام الطائفي” من بيته الشيعي.

الدخول من هذه الزاوية على ما دعا اليه المفتي الممتاز في رسالة عيد الفطر، ينطلق من كونه لم يُعهد عنه انه من دعاة تغيير النظام، وليس لدى الرجل اي مساهمة فكرية او دينية تؤسس لمقولته الجديدة، ولا يعرف عنه انه قدم اطروحة فكرية او سياسية لما يقترحه من نظام مستقبلي للبنان، اي نظام يريد واي صيغة بديلة يقترحها؟ وكان من المفيد ولا يزال الوقت متاحاً بعد، ليقترح على اللبنانيين رؤيته “الممتازة” للبنان الذي يرتجي وللنظام الذي يتقي فيه اللبنانيون الله.

لعل ما قاله المفتي الممتاز يعبر عن الترهل والضعف الذي وصلت اليه المؤسسة الشيعية الدينية الرسمية في لبنان، والتي باتت عاجزة عن ان تقدم اي اطروحات سياسية او فكرية تستقطب نقاشاً مسؤولاً، وتعكس مستوى من التفكير والانشغال بقضايا الاجتماع اللبناني، وكان حريّاً بالمفتي الممتاز أن يعود الى تراث المجلس الاسلامي الشيعي، وما صدر عنه في هذا السياق لا ليتبناه بل ليجدد فيه، ويضيف من رؤيته التجديدية وتطلعاته الوطنية والدينية، وهو ليس غريبا عن هذه المؤسسة التي طالما تحدث باسمها ومثّلها في مناسبات عدة.

ففي تراث المجلس ما قاله الامام موسى الصدر، في الدولة والكيان والنظام، والامام محمد مهدي شمس الدين له ما له من مطالعات فكرية وسياسية وتأصيلية اثارت نقاشاً واعجاباً في محطات عدة، بدأت من اطروحة الديموقراطية العددية، وصوغه العديد من بيانات القمم الروحية الاسلامية والمسيحية، الى جانب مطالعاته العميقة في مسألة الكيانية اللبنانية، وتلك التي تقدم بها على مستوى المتحد القومي- الاسلامي، فضلاً عن حواراته مع شيخ الأزهر، وصولاً الى النصيحة التي قدمها في وصاياه بالمواءمة بين الميثاقية اللبنانية، وتطوير الدولة ونزع الشوائب الطائفية منها، وهو الذي دعا الى دولة بلا دين في مقابل دعوات أسلمة الدولة.

وهناك الكثير مما يمكن ان يساعد المفتي الممتاز على قول جملة مفيدة لما يمثل، تتيح للمتلقين من اصحاب العقول الانصات والتأمل والتفكر بما يقدم من رأي.

ربما يُحمّل المفتي الممتاز اكثر مما يحتمل على هذا الصعيد، ولكن مقتضى الموقع الذي دفعه الى الذهاب بعيداً في الدعوة للانقلاب على النظام، يجعل من الاهتمام بما قال للاشارة الى انه منفصل عن سياق رسخته المؤسسة الدينية الشيعية الرسمية منذ تأسست في العام 1969، وهي طالما كانت منسجمة مع تركيبة النظام اللبناني، وعملت على محاولة التغيير من خلال قواعد التغيير في داخل النظام.

هذا لا يعني بطبيعة الحال تنزيه الزمن الايراني عما قاله المفتي الممتاز، والزمن الايراني من ابرز سماته في لبنان، انه زمن التسطيح الفكري والديني وتقديس السلاح وتعزيز العصبية، التي تتيح التحكم والسيطرة وقيادة الجماعة الشيعية الى ما يشتهي “القائد”، وهذا الخواء من شروط دوامه التنطح والتسلق والانمحاء امام السلطان، وفي احيان كثيرة المزايدة عليه، ولا يخفى على اللبنانيين والشيعة منهم خاصة، ان المؤسسة الدينية الرسمية الشيعية جرى “تقزيمها” وتحويلها الى مؤسسة خاوية، واستخدامها لمصالح حزبية ضيقة، وتحوّل القائمون عليها الى مجرد صدى للسلطة السياسية الشيعية، بل اداة منهمكة بالتعالي على هذه السلطة بحيث فقدت المؤسسة مكانتها ليس على المستوى اللبناني والعربي والاسلامي، بل حتى داخل الطائفة بحيث تحوّلت الى مجرد مكتب حزبي متقاسم بين طرفي “الثنائية”، ولن تجد فيها اي مظهر من مظاهر المؤسسة الجامعة للتنوع الشيعي.

الهبوط الحاد للمجلس الشيعي الأعلى حصل بسبب ادارته من الثنائية الشيعية، كلٌ لغايته، فـ”حركة أمل” تريد المجلس اداة طيّعة لها، و”حزب الله” اراده مجالاً لقيام وترسيخ المستوى المتدني للمنظومة الدينية الرسمية فكرياً ودينياً، بغاية اظهار تفوّق مؤسسته الدينية التابعة لولاية الفقيه، لذا كان مندفعاً لتعيين اشخاص في قيادة المؤسسة ممن يتّسمون بالضعف الديني والفكري، والطاعة العمياء له او للثنائية الشيعية.

المفتي الجعفري الممتاز سيكون شديد الامتنان اذا امكن لهذا النظام الذي دعا الى الانقلاب عليه، لو اتاح له ان يتولى رئاسة المجلس الشيعي كما كانت الحال حين اتاحت له ان يكون المفتي الممتاز، واحدى وسائله كانت رسالة عيد الفطر، التي تنضح بالطاعة العمياء اكثر لما يريد “القائد” ويشتهي.