IMLebanon

دولةُ معمل سلعاتا.. والبقية تفاصيل

كتب أحمد الزعبي في صحيفة “اللواء”:

بين الكتاب الذي أرسله الرئيس ميشال عون إلى مجلس الوزراء طالباً منه إعادة النظر بقرار استثناء معمل سلعاتا من التلزيم، الذي اتخذ في جلسة مجلس الوزراء في جلسة 14 أيّار الماضي، وما ترتب عليه في جلسة الحكومة الأخيرة مع ما يعنيه ذلك من دلالات وأبعاد وغايات ومصالح باتت معروفة، على مرأى ومسمع من التفاوض الجاري مع صندوق النقد الدولي وجوهره «الهدر والفساد وغياب المحاسبة والشفافية»؛ ما يختصر المشهد البائس في المسرح اللبناني.. فعلاً إنها «دولة بتسوى معمل سلعاتا» بلا زيادة أو نقصان، أما شعارات الإصلاح ومحاسبة الفاسدين، وواقع الإفلاس والجوع، وحقائق عدم الثقة العربية والدولية بلبنان فكلها تفاصيل تطويها ذاكرة اللبناني القصيرة.
إزاءَ ما يجري؛ انتهى كلُّ الكلام اللائق القابل للاستخدام في توصيف ما يجري في هذا البلد على يد الطبقة السياسية لناحية التدمير الممنهج للصيغة والنموذج اللبناني، بعد تدمير الدولة والمؤسسات وانتهاب المال العام وسرقة المدخرات الخاصة. ليسَ أبلغُ من تقريع ممثل الامين العام للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش للمسؤولين والطبقة السياسية اللبنانية، في تغريدته الصريحة (وهي ليست الأولى التي تنعى لبنان من باب الحديث عن استفحال الفساد وثقافة التكاذب والتضليل) وفيها أن «الأرقام المختلفة التي قدمتها كل من الحكومة ومصرف لبنان حول الخسائر بالإضافة الى عدم احراز تقدم في التعيينات القضائية وغيرها من التعيينات والتأخير في إصلاح قطاع الكهرباء كلها عوامل تضعف موقف لبنان في المناقشات مع صندوق النقد الدولي. لا يمكن للبلد او الشعب تحمل ذلك أكثر».

المساعدات الدولية في الأصل أموالُ دافعي ضرائب دول صديقة جرى تقديمها كمساعدات للبنان لكن الفساد أوصلها لحسابات مسؤولين لبنانيين في بنوك العالم.

هكذا يراوح المشهد اللبناني بين استحالة الإصلاح للأسباب المتصلة بتركيبة السلطة، والإمعان أكثر فأكثر بالمحاصصة والفساد وتقاسم ما تبقى من جثة الجمهورية، وكل ما عداه من تفاصيل.. مجرد تفاصيل.

بات لبنان نموذجاً لبلد اللامعقول، واللامنطق، وطبعاً اللاعدالة واللاشفافية.. خلال الأشهر الأخيرة هبطت أسعار النفط بشكل دراماتيكي حول العالم، وبدل أن ينعكس ذلك فائضاً في السوق اللبنانية وانخفاضاً في أسعار المشتقات النفطية يخفف عن اللبنانيين شيئاً من فجور الغلاء وتفلت الأسعار اختفت مادة المازوت من الأسواق بفعل عمليات التهريب الجائرة وتخزين الموجود منها لبيعها في السوق السوداء وسط صمت مطبق للمسؤولين وغياب مريب للرقابة والضبط والمعالجة إمعاناً بإذلال الناس وتجويعهم. وما ينطبق على مادة المازوت ينسحب على سلع حياتية وحيوية كثيرة. قبل ذلك، ثمة مظلومية ممتدة تتصل بمصائر نحو ألف شابة وشاب لبناني يشتكون منذ سنوات من كيدية فاجرة تحتجز مراسيم إلحاقهم في وظائف رسمية بعدما نجحوا في امتحانات مجلس الخدمة المدنية، في وقت جرى تمرير مراسيم أخرى ناهيك عن عشرات الآلاف من المحاسيب الذين زرعوا في الإدارات بشكل غير قانوني خلال السنوات الأخيرة.. وإزاء كل ذلك يبرز خطاب سياسي شعبوي ديماغوجي ومنافق يتنصل من المسؤولية بحجج وأعذار واهية وغير واقعية.

العودة للشارع والوضوح

إن الغضب والإحساس بالظلم وخيبة الأمل الذي يعم الشارع اللبناني طبيعي ومبرر، بل ضروري. فمعظم الناس في كل المناطق، ومن كل المذاهب والطوائف، افتقروا وضاع جنى عمرهم وصاروا تحت خط الفقر وعلى مشارف الجوع والذل. والمسؤول المباشر عن كل ذلك هذا العهدُ البائس وحاشيته العائلية، ومعه أركان السلطة السياسية الذين تحكموا بالبلد وفق منطق المحاصصة والزبائنية، ثم جشع المصارف واحتيالها الموصوف. هؤلاء هم الذين نهبوا أموال اللبنانيين، وركبوا الصفقات، وشرّعوا المحاصصات، وراكموا الثروات، واستباحوا المقدرات وهرّبوا العملاء. هؤلاء هم الذين فشلوا في تأمين الكهرباء للبنانيين، ونشروا النفايات على الطرقات، وزرعوا المحاسيب في الإدارة، وحموا الفاسدين، وفشلوا في بناء دولة حديثة متطورة، وهؤلاء هم الذي منعوا ولا يزالون يمنعون تحقق المساءلة والمحاسبة، وعدم قيام دولة الشفافية لمصلحة تغطية تحالف السلاح والفساد. لذا فان الغضب الشعبي اليوم يجب ان يتركز عليهم جميعاً لا على المصرف المركزي والمصارف «فقط».

العودةُ إلى الشارع والساحات هي عودة للوضوح، وهي نقطة الضوء الوحيدة في الفضاء اللبناني الملبد بانبعاثات السلطة الفاسدة والأوبئة والإفلاس. لسان حال الناس يهتف أن لا ثقة بطبقة سياسية تكيل وعود الإصلاح، وهي أعجز من أن تُقدم عليه لأنها، ببساطة، متورطة حتى الصميم في الانتهاب والمحاصصة والزبائنية. لا يحتاج الشعب أسباباً وذرائع لتبرير غضبه فالفقر والجوع والغلاء والركود والبطالة وانعدام الخدمات وانسداد الأفق والتكاذب والكيديات والشعبويات والصفقات والسمسرات وتسخير القضاء وأجهزة الدولة للمصالح الحزبية.. باتت فوق كل احتمال.

المعنى السيادي ضروري، بل أولوية أمام تغوّل الدويلة وسطوة السلاح على الدولة والشرعية، والثقةُ شرطٌ لإعادة ترميم ما يمكن ترميمه من مؤسسات وقطاعات اقتصادية وانتاجية ومالية، ولصون مصالح اللبنانيين في العالم العربي والعالم. والسيادةُ والثقةُ قناعاتٌ راسخة، وإيمانٌ وخيارٌ والتزامٌ قبل أن تكون كلمات وأوراق وخطط، ومعهما ثمة ضرورة لتظهير طبقة مؤهلة تتولى رعاية الشأن العام ومواكبة المرحلة الانتقالية، تؤتمنُ على الدستور والميثاق وعلى الصالح العام ومالية الدولة، وتمتلكُ خطة تغيير مجَدوَلة وواضحة تستفيد من كل الإيجابيات التي تحققت منذ انتفاضة 17 تشرين 2019 وخصوصاً نزع الشرعية عن الطبقة السياسية ورفع أولوية المحاسبة واستعادة الأموال المنهوبة، وتحرصُ على طلب المعونة من المجتمع الدولي في هذا الموضوع (وهذا أمر جوهري وضروري لكل مقاربة تغييرية)، فالفساد في لبنان يحمي بعضه بعضاً، وأغلبُ الظن أن وضع ملفٍ واحدٍ على سكة المحاسبة كفيلٌ بفضح البقية كأحجار بازل مترابطة، ولا يُخفى أن هذا الأمر يفوقُ قدرة أجهزة الداخل اللبناني، ولا بأس بالبدء بأموال القروض والمساعدات الدولية التي هي في الأصل أموالُ دافعي ضرائب دول صديقة جرى تقديمها كمساعدات للشعب والدولة اللبنانية لكن الفساد أوصلها لجيوب وحسابات مسؤولين لبنانيين في بنوك العالم.. هنا يبدأ التغيير وتنطلق مسيرة مكافحة الفساد.