IMLebanon

هل ينتهي لبنان الدولة والصيغة على يد “الحزب”؟

كتب عبد الرؤوف سنّو في “اللواء”:

أمام حزب الله خياران لفرض سيطرته على لبنان: إمّا بالوسائل العسكرية، وهذا سيؤدّي حتماً إلى اضطرابات داخلية، وإلى خللِ كبيرٍ في التوازنات في المنطقة وردود فعل دولية، أو، على الأرجح، عبر المؤسّسات الدستورية في لبنان، مدعوماً بسيكولوجياً سلاحه، كتجرؤ الشيخ قبلان على الدعوة إلى عقد اجتماعي-سياسي جديد بين اللبنانيين التي لا يمكن إلا أنْ يكون حزب الله خلفها، وبتقاسم للأدوار بينهما. فمنذ «اتفاق الطائف» كانت هناك دعوات مستترة للحزب، عبر أبواقه، الى مؤتمر تأسيسي يصوغ فيه نظاماً سياسياً جديداً للبنان، أو إلى «المثالثة» بين المسيحيين والسنّة والشيعة، وذلك لتوفير مستلزمات الهيمنة لمجموعته الشيعية على البلاد بوسائل «سلمية».

من هنا، عمل الحزب على توفير كلّ شروط النجاح لمشروعه داخلياً وخارجياً: الإمساك بكلّ القوى السياسية اللبنانية، ترهيباً أو تحالفاً أو بالتقاء المصالح، والوقوف بقوّة إلى جانب الرئيس الأسد في حربه على شعبه، انسجاماً مع مصالح الولي الفقيه في صراعات المنطقة. وقد خشي الحزب من قيام نظام جديد في سورية معادٍ له يقطع عليه مشروعه في لبنان. ووقف الحزب كذلك، ضدّ «الانتفاضة اللبنانية» منذ انطلاقها في تشرين الأول 2019، خشية أنْ تأتي بالتغيير، وتتحوّل ضدّ سلاحه وهيمنته على البلاد، وتحبط بالتالي مخطّطاته للإستيلاء على لبنان، عسكرياً أو دستورياً، وفي أنْ يكون الأخير رهينة بيد إيران. ولهذا السبب، عمل الثنائي الشيعي على ترهيب الثورة اللبنانية لإجهاضها، باستخدامه ميليشياته والقوى الأمنية ضدّها. كما وقف الحزب وراء تماسك منظومة الفساد في الدولة وصمودها وتصدّيها للثورة ومطالبها. وقد قدّر «التجمّع الأكاديمي لأساتذة الجامعة اللبنانية» حجم الهدر والخسائر التي تسبّبت فيها الطبقة الفاسدة الحاكمة بين الأعوام 1992 و2020 بأكثر من 413 مليار دولاراً أميركياً.

وبالعودة إلى خطبة عيد الفطر للمفتي الجعفري الممتاز، فقد أزاحت الشيعية السياسية من خلالها القناع عن وجهها، بأنها ضدّ لبنان الكيان والدولة والمؤسّسات، وضدّ عقود التعايش بين أبنائه؛ من الميثاق الى الطائف، من دون أنْ يحدّد سماحته أي لبنان يريد! وبكلامه هذا، أعلن المفتي الانقلاب على «الميثاقية» التي نادى بها الإمامان الشيعيان موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين. فبعد «حرب السنتين»، أصدر «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» برئاسة الإمام الصدر «ورقة عمل للإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية»، أبرز فيها موقفاً متقدّماً للطائفة الشيعية بإصرارها على نهائية الوطن اللبناني في حدوده الراهنة (10452 كلم2)، وبقيت هذه «الورقة» مشروع الشيعة الإصلاحي حتى «انتفاضة شباط» العام 1984. وفي الخطّ ذاته، شدّد الإمام شمس الدين على تلك الميثاقية في كتابه «الوصايا» بالدعوة إلى الإبقاء على النظام الطائفي وتحسينه، من أجل الحفاظ على التعايش بين المسلمين والمسيحيين، معتبراً أنّ لبنان «لا معنى له من دون مسيحييه، ولا حاجة إليه من دون مسلميه».

هكذا، يكون المفتي قبلان قد نسف بخطبته المنسّقة مع حزب الله دعوات الإمامين الصدر وشمس الدين الصادقة للعيش مع الشريك «الآخر»، في الوطن الواحد، كما هو، وأعلن القطيعة مع لبنان، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، على الأقل بالنسبة إلى الشيعة الذين يتحدّث باسمهم، وكذلك مع «لبنان الطائف» وتسويته التي حقّقت توازناً سياسياً أكبر بين طوائف البلاد، على الرغم من أنّ الاتفاق لم يطبقّ، إلا استنسابياً، وعدم إلغاء الطائفية السياسية لأسباب معروفة، وأهمها أنّ النظام الطائفي يؤمّن للقوى السياسية القدرة على الإمساك بطوائفها ومذاهبها واستخدامها لمصالحها، والإفلات من أية محاسبة أو مساءلة.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل أراد الحزب من خلال المفتي توجيه إنذار الى المسيحيين، وترويض جبران باسيل بالذات، بأنّ وقوف التيار، مؤخّراً، ضدّ سياسة الحزب (تصريحات قيادات في التيار حول سلاح حزب الله ودوره وهيمنته على الحدود غير الشرعية بين لبنان وسورية) لن يمرّ مرور الكرام، كما بقاء الموارنة في السلطة (التيار الوطني الحرّ)، وخلافة جبران باسيل عمّه ميشال عون في رئاسة الجمهورية، بأنه مرهون بمشيئته؟ ويُفهم من نعي المفتي قبلان «اتفاق الطائف»، إنّ حزب الله لن يسمح لجبران باسيل بالوصول إلى الرئاسة الأولى، ما لم يوافق على إسقاط الاتفاق ورسم دستور جديد لحكم لبنان، بدلاً من «دستور الطائف الفاسد»، وفق المفتي. ولماذا تشكّل خطبة المفتي الجعفري إنذاراً للمسيحيين وليس للدروز أو للسنّة كذلك؟

يكمن الجواب على التساؤل في ضعف الطائفتين وانقسامات كلّ منهما الداخلية التي ظهرت في الآونة الأخيرة. وقد رفض جنبلاط، حتى الان، كانتوناً «فدرالياً» لا يوفر له سيطرة تامة على مكوّناته، بوجود قوى درزية منافسة له. أما بالنسبة إلى الطائفة السنيّة، فقد لحق بها الضعف منذ اغتيال الحريري، وهي لم تبلور حتى اليوم، كأفراد وجماعات، رؤية استراتيجية لمصالحها وعلاقاتها وتحالفاتها مع باقي الطوائف اللبنانية. وقد استفاد حزب الله من أخطاء قياداتها الكارثية وتشرذمها، حتى أنه عمل عليها، وهذا ما شجعه على اجتياح المناطق السنيّة في بيروت في أيار العام 2008، مطلقاً على الاجتياح «اليوم المجيد». لكن ذلك جعله يدشّن صراعاً سنّياً–شيعياً منذ ذلك التاريخ كان وبالاً على التعايش بين أبناء الطائفتين الإسلاميتين. كما وقف الحزب ضدّ «المحكمة الدولية الخاصّة بلبنان» وتحقيقاتها التي لمست أفراداً منه، كما وراء إسقاط حكومة سعد الحريري مطلع العام 2011، وقد استبق أمينه العام الاستشارات النيابية باقتراح الرئيس نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة بشكلٍ مخالف للدستور، ما أغضب الطائفة السنيّة واللبنانيين. وبعد غياب خمس سنوات للحريري في الخارج بعيداً عن «شعبه»، عاد إلى البلاد العام 2016 وقبل بـ «التسوية الرئاسية» التي رعاها حزب الله وأوصلت كلّ من عون والحريري على التوالي إلى الرئاستين الأولى والثالثة، وأدّت إلى تراجع قوّة الحريري كرئيس للحكومة وشعبيته كزعيم للطائفة السنيّة، كما تمثيل تيار المستقبل في البرلمان العام 2018. إشارة إلى أنّ الحزب شكّل للمرّة الأولى الرافعة لوصول نواب سنّة على لوائحه الانتخابية. وبالإضافة إلى ذلك، ألحق احتجاز الحريري في السعودية العام 2017 خسائر بسمعته على الساحة السنيّة، كما أساء إليه عدم دفع تعويضات لموظفي أوجيه السعودية المصروفين، ولموظفي جريدة وتلفزيون المستقبل لتوقفهما عن العمل. كما فرض الحزب الرئيس حسّان دياب لرئاسة الحكومة الحالية بلونها الواحد، من دون أنْ يكون الأفضل حالاً من رؤساء الحكومات السابقين، لوقوعه تحت تأثير حزب الله في اتخاذ قراراته أو الرجوع عنها، وآخرها ما يتعلّق بسلعاتا ضمن خطّة الكهرباء.

ومهما نفى الحزب تهم الهيمنة والتسلّط عنه، فهو يبقى من بين القوى الرئيسية المتحالفة أو المتنافسة المسؤولة عن تخريب لبنان: «كلّن يعني كلّن»، وفق مقولة «الثورة اللبنانية»، وما وصل إليه لبنان في عصر حزب الله (الجيل الثالث)، وفق نظرية ابن خلدون، من فساد وانهيار الدولة بالإستيلاء على وارداتها ومقدّراتها، وعلى قرارها السيادي. فضلاً عن ذلك، هناك محاولات للحزب لتغيير النظام الاقتصادي، من ليبرالي إلى موجّه، وجعل بوصلته تميل نحو الشرق (إيران والصين). ويتحمّل الحزب والقوى السياسية مسؤولية ما لحق بالشعب اللبناني من أفقار وتجويع وترهيب وخسارته دعم العرب والمجتمع الدولي في الأزمة المالية والاجتماعية الراهنة – كلّ ذلك من جراء سلاحه وأدواره في لبنان والمنطقة. لكن الحزب طمأن جماعته الحزبيين، مطلع الثورة، بأنه بمنأى عن التداعيات السلبية الآنية على الاقتصاد والمجتمع اللبنانيين، لأنّ «دولاراته» تصله مباشرة من إيران. وبات الجميع في لبنان وفي الخارج يدرك أنّ حزب الله ينفذ مشروعاً خارجياً، بدليل اعتراف أمينه العام بأنّ «أكلنا وشربنا وأموالنا (الدولارات) وسلاحنا» تأتيه من إيران، وهذا انتهاك فاضح للدستور اللبناني الذي يعتبره المفتي الجعفري «فاسداً».

إنّ حالة الاهتراء السياسي الذي وصل إليه لبنان، بفضل حزب الله، وعجز حكومة دياب عن تنفيذ التعيينات والقرارات والإصلاحات، والإفلاس الذي أصاب الدولة، سياسة ومالية عامّة ومن ضمنه التوظيف العشوائي لعشرات الألاف من أتباع الأحزاب والميليشيات ومحاسبيهم، وتوقفها عن تسديد ديونها الخارجية (اليوروبوند)، تشكّل كلّها عوامل أساسية لإنهيار الدولة، وبالتالي تقدّم فرصة ذهبية للحزب للاستئثار بالحكم بالوسائل «السلمية». من هنا، جاءت مطالبة المفتي قبلان بلبنان جديد، والدعوات إلى مؤتمر تأسيسي. فهل ينتهي لبنان الدولة والصيغة ولبنان الطائف، على يد الحزب، وتصدق مقولة ابن خلدون بتدمير الدولة اللبنانية على يد «الجيل الثالث»، والقضاء على عقود التعايش بين اللبنانيين (الميثاق والطائف)، عبر الاستعانة بالعامل الخارجي (إيران)؟ وهل ستستغل قوى مسيحية خطوة حزب الله هذه كي تعلن كانتونها؟ وهل يمرّ أحد المشروعين أو كلاهما، من دون حرب داخلية؟ وفي كل الأحوالّ، إنّ تزاحم المشاريع للقضاء على لبنان الموحّد، يؤكد غياب فكرة الوطن عند معظم اللبنانيين.

إنّ خلاص لبنان، لا يكمن في المشاريع الراديكالية، الفدرلة أو تغيير النظام لصالح فريق له ارتباطات خارجية، وإنما في الحفاظ على الدولة والكيان، بالتحوّل إلى الدولة المدنية التي لا تتعامل مع شعبها على أنّه أبناء طوائف، بل تنظر إليهم كمواطنين يتمتعون بالحرية والمساواة والعدالة. وهذا هو التحدي الأكبر للبنانيين في المستقبل.