IMLebanon

مبادرات زراعية فوق سدّ بسري… قبل أن يغيّر “البيك” رأيه!

كتبت آمال خليل في صحيفة “الأخبار”:

رسمياً، لم يلغ مشروع سد بسري، لكنه جمّد على أرض المرج. الاستدارة التي سجلها أخيراً رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط من مؤيد للمشروع إلى معارض، توّجت سنوات من النضال الشعبي والأهلي ضد السد. ناشطون وأهالي ومزارعون استغلوا الفرصة قبل أن يغيّر «البيك» رأيه. اندفعوا بدعم من بلديات شوفية إلى استئناف الأعمال الزراعية في أراضي المرج بين جزين والشوف

إلى تعيد، القرية الجزينية المطلة على المرج والتي نزح معظم أهلها عنها، توجه الناشط في «لجنة أهالي مرج بسري» كريم كنعان إلى منزل سليمان أبو سليمان (أبو الياس) ليبشره بأن «مشروع السد قد جمّد». قبل ثلاث سنوات، مرّت استملاكات السدّ في بستان الحمضيات واللوزيات الذي يملكه الرجل الذي يشارف على التسعينيات من العمر، وقصمته الى شطرين، مستحدثة ممراً للآليات فيه. لم يملك الرجل خيار رفض التوقيع على تملّك الدولة لمئتي دونم اشتراها في الستينيات وزرعها ورعاها وأنفق من جناها على أولاده وأحفاده. لم يحتمل متابعة معاملات نقل الملكية لتقاضي ثمن الاستملاك (قبض نصف المبلغ). الحزن على جنى العمر عرّضه لأزمة قلبية استوجبت جراحة للقلب المفتوح لم يعد قادراً بعدها على المشي من دون مساعدة. «يا ليت تلقيت هذه البشرى قبل ثلاث سنوات، لما كنت مرضت حتى العجز» يقول.

لم يكن قلب أبو الياس وحده ضحية المشروع. آلاف الأشجار المثمرة والصنوبر المعمرة قطعت العام الماضي. وضرب اليباس مئات الدونمات التي منع أصحابها من الوصول إليها منذ أقل من عامين. كل هذه المجازر التي مرّت على المرج وأهله أثناء الإعداد لتنفيذ المشروع، لم تكن ملحوظة في تقييم «الآثار البيئية والاجتماعية المتوقع حدوثها من جرّاء سد بسري» التي أنجزها الاستشاري «دار الهندسة» بتكليف من مجلس الإنماء والإعمار عام 2014. فقد وجد التقييم أن المرج أرض شبه بور تنعدم فيها الأنشطة، مع أنه أشار إلى أن الأراضي المستملكة بلغت مساحتها 570 هكتاراً وتقع في نطاق خمس بلدات شوفية وتسع بلدات جزينية، وتتوزع بين 150 هكتاراً مزروعة (لم يشر إلى أنواع الزراعات) و131 هكتاراً من المزروعات الطبيعية و148 هكتاراً من الحقول غير المستثمرة و4 هكتارات من البيوت الزراعية البلاستيكية وهكتار واحد للأبنية (بيوت العمال). التقييم جزم أيضاً بأن «الممتلكات السكنية قليلة جداً ولا توجد أماكن تجارية أو بنية تحتية و لا مرافق للمجتمع الأهلي». بناءً على ذلك، توصل إلى أن «تأثير السد على السكان الأصليين ونمط حياتهم وخسارة المجتمعات الأهلية القائمة وتفرق المجتمعات الأهلية» لا تنطبق هنا، ولم يتوقع حدوث «اضطراب جماعي بسبب تقييد نشاط الأشخاص في الدخول إلى المرج».
هذا على الورق. لكن في الواقع اضطرب بالفعل أهل المرج بعد منعهم من الدخول واستحداث قواطع حديدية عند مداخله ونشر حراس تابعين للمتعهد. إصرار الأهالي والناشطين على الدخول استدعى نشر قوة من الدرك والجيش لصدّ المتظاهرين مرات عدة. من ناحية جزين، لم يعد بمقدور وليد يوسف، ابن مزرعة المطحنة وأحد أقدم مزارعي المرج، الدخول إلى أراضي آل جبران التي يشرف عليها. أما بستانه الواقع خارج حدود الاستملاك، فقد تضرر من استحداث طريق ومن غبار الآليات. لكن وساطة النائب السابق وليد جنبلاط من ناحية الشوف سمحت للمزارعين بالوصول إلى أراضيهم من دون وضع قواطع حديدية من جانب عماطور وباتر ومزرعة الشوف وبسابا ومزرعة الضهر. لم ينقطع أبو هلال غيث يوماً عن أرضه في سفح بحانين وباتر والغباطية. الشيخ المقيم في باتر لم يعدّل روزنامته الزراعية، مستفيداً من تعهد سابق قطعه جنبلاط لأهالي الشوف بأن يزرعوا حتى تبدأ الأشغال. ببسمة ساخرة يستذكر هلال كيف حضر وفد من أصحاب المشروع ليستطلعوا آراء المهجّرين من أرضهم: «ماذا ستفعلون بعد أن تغادروا هذه الأرض؟»، سألته ممثلة الاستشاري. «سنبحث عن أرض بديلة. ليس لأن المزارع يعيش فوق الريح. القبضاي بيننا من يصمد لآخر الموسم من دون ديون. إنما لا بديل لنا عن الزراعة. لو لدي معاش ثابت آخر همّي المرج. حفظت شهادتي في المحاسبة في الدرج». لم يجد هلال أرضاً بديلة من المرج. «المساحات الزراعية تضاءلت بفعل العمران، فيما معظم الأراضي في المنطقة جردية وتحتاج إلى كلفة عالية لاستصلاحها. أما المرج، فإنه سهل وخصب ومليء بالعيون والينابيع». جارهما أبو يحيى باع أرضه قبل الاستملاك. كان يملك مزرعة بقر صارت تكاليفها أكبر من أرباحها. لكنه سرعان ما ضمن قطعة أرض بجوارها يزرعها بالخضر. اجتاز الجيران قطوع السد، لكنهم يواجهون حالياً قطوع الدولار الذي يهدّد أيضاً بتهجيرهم من القطاع كله، بعدما «طارت أسعار المواد الكيميائية والبذار».
ما حظي به أهل المرج الشوفيون، لم يتوافر لجيرانهم الجزينيين. لكن ما إن نقل عن جنبلاط أن «السد لن يمر وأصبح خلفنا»، حتى شكّل عدد من الناشطين لجنة «أهل الأرض» لإعادة الحياة إلى المرج. بالتنسيق مع مخاتير وفاعليات بسري والميدان وعاراي وبنواتي والحرف والغباطية وبحانين وبنواتي، أطلقت مبادرات فردية لاستثمار الأراضي من قبل أصحابها المباشرين أو من يأذنون له. ابن بسري كلود حبيب يملك ورشة صناعية (حدادة وبويا) في بيروت حيث كان يقيم غالبية وقته. الحجر المنزلي بسبب كورونا أعاده إلى مسقط رأسه. هناك، ضمّ جهوده إلى جهود كنعان والأخوين وليد وشوقي يوسف وآخرين أجروا اتصالات مع مالكي الأراضي للاتفاق على آلية زراعتها. الأخوان يوسف سيزرعان القمح. «بإمكاننا أن نزرع منتجاً أكثر ربحاً. لكننا نريد استعادة عادات الأجداد بتوفير خبزنا ومونتنا والاكتفاء ذاتياً»، قال شوقي يوسف الذي انصرف للزراعة بعد تعثر أشغاله.

شكّل عدد من الناشطين لجنة «أهل الأرض» لإعادة الحياة إلى المرج

وجهت اللجنة الدعوة إلى من يرغب في اختيار قطعة أرض والاعتناء بها بعد التشاور مع مالكيها والاستفادة من إنتاجها. لكن ماذا عن الإطار القانوني لتلك الأراضي التي صارت ملكاً للدولة وصار العمل فيها مخالفاً للقانون؟ «نحن لسنا ضد السد الذي جمّد أخيراً. لكننا لن نترك الأرض بوراً أو يأكلها العليق. عندما تبدأ الأشغال مجدداً نخرج منها»، قال شوقي يوسف. تنظيم توزيع الأراضي يتم بالتنسيق مع المخاتير والفعاليات المحليين. كنعان أوضح أن المبادرة هدفها «العودة إلى الأرض لتأمين الغذاء عبر الإنتاج المحلي بعد أن توقفت كل الأشغال بسبب كورونا والأزمة الاقتصادية». المبادرة قد تتحوّل إلى تعاونية لتنظيم توزيع الإنتاج وبيعه تؤلّف من المزارعين ومخاتير البلدات المعنية. 150 دونماً سوف تستثمر من أشخاص جدد، من المرجح أن يزرعوها بالقمح لكفاية حاجة بسري والجوار بأسعار رمزية. فيما سائر الأراضي الزراعية يستمر من كان يضمنها بزراعتها مع فارق أنهم لن يدفعوا بدل إيجار من مالكها الأساسي، على أن يتصرفوا بإنتاجهم كما المعتاد ببيعه وتحصيل مردوده لأنفسهم. تجدر الإشارة إلى أن ممثلين عن المتعهد جالوا على المزارعين الجدد وأبلغوهم الموافقة على زراعة الأراضي بشرط عدم الاقتراب من الموقع الذي سينشأ عليه حائط السد.

حوار فوق السد
بعد إنفاق عشرات ملايين الدولارات وحجز مئات الملايين كقروض للبنك الدولي، يدفع وسيدفع اللبنانيون فوائدها لسنوات طويلة، وبعد إنجاز جزء كبير من مشروع سد بسري، تعود وزارة الطاقة والمياه إلى المربع الأول وتطلق دعوة إلى الحوار مع المعترضين على المشروع وأهل البلدات المعنية والمجتمع المدني. الحوار الذي لم يحدد موعده بعد، سيتمحور حول الدراسات الجيولوجية والزلزالية والهيدرولوجية لمنطقة السد، والأثر البيئي والتعويض الإيكولوجي، وبدائل السد والأثر الاجتماعي وإجراءات الحفاظ على الآثار والإرث الثقافي. إلا أن نص الدعوة أفشى نيّات محتملة لإجراء حوار «رفع عتب» تلبية لتوصيات البنك الدولي. فقد طلبت الوزارة من الراغبين في المشاركة إرسال سيرهم الذاتية على بريد إلكتروني مخصص، على أن يتم فرز الطلبات وجدولة الأسئلة والمقترحات والرد خطياً على أسئلة من تتعذر دعوتهم بسبب تطبيق تدابير التباعد الاجتماعي! وفي هذا الإطار، قال منسّق الحملة الوطنية للحفاظ على مرج بسري، رولان نصور، لـ«الأخبار» إن الحملة تدرس المشاركة في الحوار «رغم تحفظنا على الجهة الداعية، وزارة الطاقة والمياه، التي لا نثق بها ولا نعتبرها جهة محايدة».