IMLebanon

عاشوا أمواتاً قبل أن ينتحروا!

كتب أحمد الزعبي في صحيفة “اللواء”:

في لبنان، في عهد البؤس والفشل والإفلاس والتجويع، أضحى الانتحار شبه جماعي وشبه يومي، من دونِ أن يحرّكَ هولُ المأساةِ ساكناً لدى مسؤولين ماتت ضمائرهم منذ زمن بعيد. من صور إلى الهرمل إلى بعبدات وجدرا وبيروت.. محمد وسامر وخالد وتوفيق ومن سيأتي بعدهم.. كلهم «بوعزيزي لبنان»، هم ليسوا أشباحاً بل مواطنون منذ أكثر من عشر سنوات، كواهمُ البؤس بناره فجعلَ التعايشَ مع الانتحار أمراً طبيعياً. هم أناسٌ ماتوا ببطء ومنذ زمن طويل، قهراً وجوعاً وظلماً، أو قُـل، هم عاشوا أمواتاً قبل أن ينتحروا.

ما الذي دفع بهؤلاء لاتخاذ قرار استحضار الموت؟ ببساطة، لأنهم باتوا يشعرون أن حياتهم أضحت بلا كرامة أو قيمة، ولأنهم يعيشون في دولة الكوابيس؛ كابوس الدولار والسوق السوداء وجشع المافيات، وكابوس الغلاء وفلتان الأسعار وفقدان السلع والثلاجات الفارغة، وكابوس شحّ المحروقات والمشتقات النفطية، وكابوس العتمة والتقنين سواء من كهرباء الدولة أو المولدات، وكابوس التهريب، وكابوس تقييد الحريات والاعتداء على الناشطين، وكابوس الفساد والنفاق السياسي والشعبويات الرخيصة وغياب حسّ المسؤولية. والكابوس الأكبر بحكومة غياب الخطط والارتجال واللجان والاشباح والاتهامات.

في عهد البؤس والفشل والإفلاس، الخبرُ الأولُ ليس حلُّ الأزمات المتكاثرة، أو رفاهية المجتمع، بل باتَ سطو آباء يائسين على الصيدليات والمحال التجارية للحصول على عبوات حليب لأطفالهم أو دواء أو طعام، وآخرين يفتشون في القمامة بحثاً عن لقمة تقيهمُ الهلاك.. مشاهد، على قسوتها، باتت «مألوفة» لتزايدها المضطرد، وتعكسُ عمق المأساة والأزمة الحياتية والمعيشية على وقع الانهيار المتسارع، لكنها أيضاً شاهد صارخ على فشل المنظومة المتحكمة وفسادها، فهذه المآسي – الفضائح تحصل على عين العهد والطبقة السياسية التي تواصل الرهان على ما تبقى من جثّة البلد، وتحصل أيضاً على عين حكومة تتلهى بالكثير الكثير من التكاذب والاحتيال الكلامي، من دون أن تجترح حلاً واحداً لأي أزمة من الأزمات التي تتوسع يوماً بعد آخر.

حكومة توزيع الاتهامات

ما حصل نهاية الأسبوع الفائت من تسويق أجواء حول تغيير حكومي قريب، لا ينبغي أخذه – لأسباب عديدة – كخطوة جدية نحو وقف الانهيار والتفكك، إذ سرعان ما تبين أن كل ذلك لا يعدو كونه مناورات بين أطراف السلطة أنفسهم، هذا يريد تصفية حسابات مع العهد وصهره، وآخر يريد إيصال رسائل الابتزاز واستجرار العروض، وطرف ثالث يُذكّر الجميع بين حين وآخر أن الكلمة الفصل له، وأنه هو المتحكم والمهيمن ولا يجدر بأحد أن يخرج عن طاعته، وأنه، فوق ذلك، قادر على فرملة كل التوجهات متى أراد. حكومة حسان دياب، بالمناسبة، ساقطة سياسياً وشعبياً وأدائياً منذ زمن طويل مع وقف التنفيذ، بعد فشلها في كل الملفات، وكل التحديات، وكل الاستحقاقات.. ومصيرها المحتوم الإسقاط غداً أو بعده.

لم يعهد لبنان، ولا مقام رئاسة الحكومة، صيغةَ تخاطبٍ مع السلك الديبلوماسي العربي والدولي، تقوم على توزيع الاتهامات العبثية والتلميحات والغمز واللمز، وخطاباً سياسياً يرتكز إلى حديث الاشباح والاستعارات والمجاز وخوض المعارك الدونكيشوتية!! رئيس الحكومة وبدل تقديم حلول وإصلاحات وقرارات وخطوات لاستعادة الثقة يمعنُ بالهجوم على أصدقاء لبنان وداعميه، ويسرّع الخطى باتجاه «تطفيش» من تبقى منهم! هل من مصلحة لأحد بـ«تسويد» وجه لبنان مع المملكة العربية السعودية وأميركا وبقية العالم باستثناء المحور إياه؟

بهذا المعنى إن التعجيل بترحيل هذه الحكومة ووجوهها، واستبدالها بأخرى تحظى بثقة الشارع اللبناني وثقة الخارج والمؤسسات الدولية بات ضرورة وطنية لوقف الانهيار، أولاً، ولإنقاذ ما تبقى من مكانة وسمعة ومقومات يمكن إنعاشها في هذا البلد، ثانياً. ما عاد اللجوء إلى الخطب واللجان والمستشارين والهيمنات والتهويلات ينفع أمام شبح الجوع والإفلاس.

متى ثورة الجياع

ما جرى ويجري خلال الفترة الأخيرة ترجمة صادقة للأرقام الصادمة في تقارير البنك الدولي حول نسب الفقر والبطالة وانهيار قيمة العملة، ونتيجة حتمية لغياب الإصلاحات والسياسات الاجتماعية والاقتصادية العادلة في مقابل استشراء الفساد والزبائنية ونظام المحاصصة. يمكن وصف مطالبة الحكومة بأن تكون أكثر رحمة ورأفة وتحسساً لآلام الفقراء بأنه نكتة سمجة. من قال إن السياسات في لبنان تُبنى على أسس إنسانية وعلى احترام الحقوق الأساسية، وعلى قواعد التكامل وتمكين الطبقات الأكثر حاجة وفقرا.. غرق لبنان بالتنظير لسياسات اقتصادية وإصلاحات وهندسات مالية أثقلت كاهل الفقراء وأغرقت الفئات المتوسطة وما دونها بأعباء وضرائب، ولم تخدم سوى أصحاب المصارف وطبقة سياسية صغيرة. بهذا المعنى فإن فئات كثيرة في لبنان تنتحرُ تباعاً وبطرق مختلفة وأساليب شتى، لكنهم يؤثرون الموت البطيء والرضوخ للظلم المعيشي والاجتماعي والسياسي والطائفي، متعاطفين حتى الصميم مع جلاديهم!!

كلما ظنّ الشعبُ أنه وصلِ إلى القعر، فاجأته السلطة بأن ثمة قعراً أشدّ بؤساً ستوصله إليه، الانتحارُ يأساً، والسلبُ لإطعام الأطفال، وطلبُ اللقمة في النفايات ظواهر لا تليق بلبنان وشعبه، هي جرائم بفعل فاعل، ولا ينبغي أن تمرّ أو تطوى بمرور الزمن. الجوع قتلٌ بطيء، واغتيالٌ من نوع آخر.

الانتحار يأساً عمل فردي وموقف اعتراض صارخ، لكن في السياق اللبناني الراهن هو جريمة ترتكبها الطبقة المتحكمة وحكومتها الفاشلة لأنها تتمنّع عن معالجة الأوضاع المعيشية، وتترك الساحة لمافيات السوق السوداء والتهريب والمتاجرة بآلام الشعب، وفوق ذلك تؤخر الإصلاح ولا تحارب الفساد. يجبُ أن يتحول الموت التراجيدي والصادم إلى ثورة غضب. مؤسفٌ أن ما جرى ويجري لم يطلق حتى الآن ثورة الجياع والأمعاء الخاوية ضد منظومة تقتله، وتحصر أحلامه برغيف الخبر ولقمة العيش وعلبة الدواء؟! ولله الأمر من قبل ومن بعد.