IMLebanon

ماذا بعد الانهيار؟

كتب محمد عبيد في صحيفة “نداء الوطن”:

قد يستغرب البعض هذا السؤال، وخصوصاً مسؤولي الدولة على اختلاف مستوياتهم، الذين ما زالوا يَستهزِئون بالواقع، أو يتعاطون معه على أنّه جائحة لا بدّ أن تنتهي مفاعيلها مع مرور الوقت، والذين لا يُريدون الإعتراف بأنّ هذا الإنهيار، هو نِتاج تراكم فشلهم وفسادهم وطائفيتهم، بل واستحمارهم لمُناصريهم من طوائفهم ومذاهبهم أولاً، ومُمارستهم كل أنواع الإرهاب والإستقواء المعنوي والجسدي ضدّ مُعارضيهم ثانياً، وحتّى ضدّ المُحايدين، الذين كان وما زال أكثرهم يُفضّل تجنّب الصدام معهم.

لكنّ الإنهيار الموصوف الذي نعيشه، صار أقوى من قُدرات منظومة السلطة مُجتمعة على لجمه، أو على الأقلّ الحدّ منه، حتى لو أرادت ذلك، لأنّه لم يمرّ في تاريخ هذا البلد أن شكّلت أي حيثية طائفية – سياسية داخلية، رافعة لمشروع الدولة، أو تمكّنت من صياغة مشروع إنقاذ، يتجاوز حدود نفوذها الطائفي أو المذهبي. الإستثناء الوحيد هو نجاح مقاومة “حزب الله” في تحرير الأراضي اللبنانية من العدو الإسرائيلي، وكذلك تمكّنها من إنهاء المجموعات الإرهابية التكفيرية على الحدود الشرقية الشمالية.

على أنّ هذا الإستثناء الذي يرتكز الى مخزون ثقافي إيديولوجي خاص، لم يكن ليُحقّق هذين الإنجازين الوطنيين مُنفرداً، لو لم يستند الى ثنائي إقليمي: إيران وسوريا. هذا الثنائي الذي وفّر له كل مقوّمات القوة والرعاية والتغطية السياسية اللازمة، لتجنيبه التورّط في المُحاصصات والصراعات الداخلية إبّان فترة الوجود السوري، كما أدخله في منظومة التوازنات الإقليمية والدولية في مرحلة ما بعد ذلك الوجود، وذلك بهدف فرض التعاطي معه على أنّه قوة، يستحيل النيل منه أو إضعافه، أو حتّى جرّه الى تغيير سلوكه تحت مُسمّى “اللبننة”.

في المُقابل، كانت التركيبة السياسية الحاكمة، منذ أول مجلس نيابي مُنتخب في العام 1992، في إطار إعادة تكوين السلطة بعد إقرار وثيقة الوفاق الوطني في الطائف، كانت هذه التركيبة خصوصاً بعد إغتيال قائدها الفعلي الرئيس المرحوم رفيق الحريري، تُمعِن في تناتش مؤسسات الدولة، وتحاصصها، ونهب مُقدّراتها، والسطو على أملاكها، وبدا أنها تتصرّف وكأنّها أسقطت من كل حساباتها، إمكانية مجيء اليوم الذي ستُحاسب فيه على كلّ ما اقترفته أيديها بحقّ لبنان واللبنانيين.

في ظلّ نظام طائفي كالذي نعيشه في لبنان، من الطبيعي أن يعتقد أركان هذه التركيبة الطائفية السياسية، أنّ الحماية المتوفرة لهم لا يُمكن أن تخذلهم، خصوصاً منها الحمايات الخليجية والغربية. هذه الحمايات التي كانت ترى فيهم دفرسوارات سياسية تنفيذية وتشريعية لإبقاء لبنان مُلتصقاً بمشاريعها، بخاصة بعد الصعود الإيراني، إثر الخروج من تداعيات حرب النظام العراقي على طهران.

لذلك كلّه، يبدو إعتقاد السلطة القائمة، برئاساتها ومؤسّساتها كافة، بإمكانية تشكيل رافعة داخلية لمشروع الإنقاذ، واهياً وواهماً في آن. كما أنّ إنتظار إستعادة رضى تلك الحمايات في المدى المنظور والمتوسّط، يبدو أكثر إستحالة، في ظلّ إشتداد التجاذبات الأميركية – الإيرانية على الساحة اللبنانية، كذلك في وقت تُدير فيه مُعظم الدول العربية، وبالأخصّ منها الخليجية، ظهرها للبنان، كعِقاب أولاً لجماعاتها، الظاهرين منهم والمُستترين، على فشلهم في مواجهة المدّ الإيراني، أو على الأقلّ، موازاته من حيث الإمساك بمفاصل القرار الإستراتيجي في لبنان، كما يقولون هم.

كل ما عدا ذلك، لا يعدو كونه ألاعيب محلّية ممجوجة، تتبدّل فيها الوجوه والأسماء، ليس إلّا. ومِثال ذلك، ما قام به ثنائي التسوية الرئاسية سعد الحريري وجبران باسيل، في مُحاكاة وهمية لثنائي التسوية الطائفية التاريخية التي صنعها الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصلح. وبعيداً من أحجام وأوزان وثِقَل الثنائي المُستجدّ الواهم مُقارنة بالخوري والصلح. إلّا أن هذا الثنائي لم يأخذ بالحسبان وجود حيثيات طائفية، كالشيعة والدروز، على مسرح صناعة السياسة اللبنانية من البوابة السورية بعد الطائف. وحده رفيق الحريري فهِم هذه المعادلة، فقام بتركيب ثلاثية “الحريرية السياسية” التي ضمّته الى جانب الرئيس نبيه بري والأستاذ وليد جنبلاط، والتي إستند إليها لإبعاد المسيحيين من القرار السياسي والمؤسّسات والإدارة.

اليوم، وبعد سقوط تلك التسوية، أو بالأصح فشل الثُنائية المُستعادة، يسعى باسيل لتركيب أخرى مع بري، تفعيلاً للمحاصصة في حكومة الإستسلام البليد، وسعياً لتحصيل ما أمكن من المكاسب في الوظائف والتلزيمات والمشاريع، قبل أفول هذا العهد.

المُفارقة أنّ أركان هذه التركيبة السياسية المُتهالكة، القُدامى منهم والمُستجدّين، ما زالوا يتصرّفون على قاعدة أنّه يُمكنهم إعادة إنتاج أنفسهم وحيثيّاتهم الحزبية والطائفية التي ترنّحت بفِعل الإنتفاضة، وأنّ المكتسبات والإمتيازات التي يؤسّسون لها الآن، يُمكن أن تعيش وتستمرّ بعد الإنهيار، في حين أنّ الحمايات الخارجية كانت وما زالت تبحث عن بدلاء أقلّ كلفة، وأحسن سيرةً، وأكثر قدرة. ناهيك عن رفض المِزاج العام الشعبي اللبناني، على إختلاف توجّهاته، لمعظم هذه التركيبة، ولإمكانية منحها فرصة جديدة في إدارة شؤون لبنان وشعبه.

يقِف لبنان اليوم على فالق الحسابات بين واشنطن وطهران، فإذا كان القرار الأميركي الذهاب بالضغط على الواقع النقدي والمالي الى مداه الأقصى، فذلك يعني أنّ إمكانية الإتّكال على تشكيل رافعة إقليمية – دولية لإنقاذ لبنان صارت أمراً مستحيلاً، وبالتالي، أصبح الإنزلاق نحو الإنهيار الكامل واقعاً لا مفرّ منه. أما في حال التعقّل الأميركي، والأخذ بالحسبان تداعيات الإنهيار الكامل على اللبنانيين عامة، وليس على بيئة “حزب الله” حصراً، يُمكن حينها لَملَمة ما أمكن مِمّا تبقّى من الدولة والمؤسسات والمجتمع، والإنتقال الى البحث الجدّي بين اللبنانيين، في إعادة صياغة مشروع دولة، لا تشبه مطلقاً مزرعة الـ28 عاماً الماضية.