IMLebanon

حياد لبنان حقيقة كيانيّة

كتب د. ميشال الشماعي في صحيفة “نداء الوطن”:

إستغربت أوساط “حزب الله” وحلفائه، طرح البطريرك الراعي موضوع حياد لبنان، لا سيّما في هذه المرحلة الحرجة التي نمرّ بها من حيث الضائقة الإقتصادية – النقدية، إضافة إلى حالة العزلة التي وضعته فيها خيارات “الحزب” الإستراتيجيّة، المُستمدّة من ارتباطه الأيديولوجي. فهل دعوة البطريرك إستجابة سياسيّة – وطنية، أم واقع حضاري وتاريخي؟

في مراجعة بسيطة لفلسفة قِيام الكيان اللبناني، يتبيّن لنا أنّ مبدأ الحياد هو في صُلب هذه الفلسفة، لا بل أكثر من ذلك. إنّ الحياد في لبنان هو طبيعي، فرضته الطبيعة جيوبوليتيكياً على جوهر وجود هذا الكيان، إنطلاقاً من مجموعة معطيات نبرزها كالآتي:

الطبيعة الجغرافيّة – الجيوبوليتيكيّة

إنّ السلسلة الشرقية التي تفصل لبنان عن سوريا، تجعله بحُكم المُحايد عنها جغرافياً في الحدود الشرقيّة والشماليّة الشرقية. أمّا النّهر الكبير، الذي يفصل لبنان جغرافياً عن سوريا من الناحية الشمالية، فهو أيضاً يفرض الحياد جغرافياً. من هنا، بات الحياد جغرافياً واقعاً فرضته الجغرافيا قبل التاريخ. ولكن في هذه الحالة لا يعني العزلة. لبنان لا يستطيع إلّا أن يكون فاعلاً جيوبوليتيكياً، تأثّراً وتأثيراً بمحيطه الجغرافي من حيث طول الحدود مع سوريا التي تبلغ 375 كلم.

الطبيعة السوسيو – سياسيّة

إنّ الحدود الجنوبية في جزء منها، هي ذات طبيعة جغرافية، لا سيّما في منطقة جبل الشيخ، والمنطقة المُتنازع عليها في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من قرية الغجر. لكنّ الخطّ المُمتدّ على طول الحدود مع فلسطين المُحتلّة من هذه المنطقة إلى البحر، قد تحدّد بالدم والنّار طوال عقود وعقود.

من هذا المنطلق، صار الحياد واقعاً جغرافياً لا يستطيع لبنان الطبيعي أن يكون من دون الإلتزام بهذا المبدأ. أمّا من الناحية التاريخية، فيكفي أن نستذكر المواقف التي صدرت عن رجالات كبار من تاريخ لبنان. ففي فترة معاهدات الصلح إلى فرساي، في 25/10/1919، يوم أوفد البطريرك الماروني الياس الحويك من قبل الشعب اللبناني كلّه، بحسب الوثيقة رقم 108 من الملفّ 42، الموثّق في كتاب “وثائق البطريرك الحويك السياسية” في أرشيف البطريركيّة المارونيّة في بكركي، من تقديم: الخورأسقف سعيد الياس سعيد، من منشورات المركز الماروني للتوثيق والأبحاث، في طبعته الأولى من العام 2013. وأهميّة هذه الوثيقة تكمن في ذكر البطريرك الحويّك أنّه لا يُمثّل الموارنة فقط في لبنان، بل اللبنانيين كلّهم. وعندما سئل في المؤتمر عن طائفته أجاب أمام الجميع: “طائفتي لبنان”.

وفي هذا الكلام دليل إضافي على عدم تحيّز لبنان إلى أيّ فئة من لبنانييه؛ ولا حتّى التصاقه العضوي بأيّ بلد آخر، لأنّ البطريرك الحويّك أصرّ على استقلال لبنان، بحدوده المُعترف بها من الدولة الفرنسية التي وضعت كالآتي:

– إلى الغرب البحر المتوسّط.

– إلى الشمال النهر الكبير إيلوتيروس، إلى الشمال الشرقي عبر خطّ ينطلق من هذا الأخير ويلتفّ حول سهل البقيعة والضفّة الشرقيّة لبحيرة حمص، ما يُعرف بسهل القصير اليوم.

– إلى الشرق عبر قِمم سلسلة جبال لبنان الشرقيّة وقِمم جبل الشيخ.

– إلى الجنوب الشرقي، عبر خطّ ينطلق من آخر خواصر جبل حرمون، ويلتفّ حول الحولة وبحيرتها، ساماكونيتيس، إلى الجنوب عبر خطّ ينطلق من الجبال شرق هذه البحيرة، ويلتفّ حول هذه الأخيرة ليصل إلى الغرب، إلى رأس الناقورة.

هذه هي الحدود الرسمية التي طالب بها البطريرك الحويّك سنة 1919، وهي مُثبتة في الوثيقة رقم 6 من الملفّ 40 في المرجع المذكور آنفاً. إلا أنّ خريطة لبنان الراهنة التي أقرّت من فرنسا سنة 1920 جاءت أنقص ممّا طالبت به البطريركية المارونية. بذلك، تنتفي ذريعة التخلّي عن مسيحيّي وادي النّصارى، وتسقط ذريعة الخِلاف حول لبنانية مزارع شبعا.

ومع بطريرك الإستقلال أنطون عريضة، تكرّس أكثر مبدأ حياد لبنان، لا سيّما بإعلان الزعيم السنّي رياض الصلح آنذاك مقولته الشهيرة: لا شرق ولا غرب. ليُكرّس اتّفاق الطائف المُناصفة اللبنانية لتثبيت كيانية الآباء والأجداد. يبقى أن نُكرّس الحياد الإيجابي في زمننا هذا لننتهي من القضايا الخلافية التي قد تفتّت الكيانيّة اللبنانيّة، أو قد تفرض على لبنان ما لا يُشبه لا شعبه ولا تاريخه الحضاري.

نحن لا نُريد معاداة الناس. والقضية الفلسطينية هي من صلب التزامات لبنان الحيادي، لأنّه حضن الفلسطينيين وقدّم لهم ما لم تقدّمه أي دولة عربية. لبنان الحيادي يلتزم بقضايا الحريّة، والسلام، والتواصل الحضاري بين الشعوب. هذه هوية أرضنا. ولا تستطيع أي دولة أن تقوم بتعارض مع حقيقة هوية أرضها. فمن حقّ اللبنانيين جميعهم العودة إلى حقيقة وجودهم. واليوم مسؤوليّة الجميع النِضال لاستعادة لبنان الرسالة. وغير ذلك، نكون قد أخرجنا لبنان من التاريخ، والخوف عندها أن يُطرَد من قبل باعة الهيكل واليوضاسيين قبضة الثلاثين، من الجغرافيا!