IMLebanon

حجم كارثة بيروت “بلا أرقام”: نزوح وموت ودمار

كتبت مريم مجدولين لحام في صحيفة “نداء الوطن”:

بيروت عالقة تحت الأنقاض، ناشطون ومتطوعو إغاثة يجولون الشوارع في ظلّ إجراءات أمنية مشددة، وعمليات مسح في محيط المرفأ حيث وقع الانفجار أمس الثلثاء، للعثور على المفقودين وانتشال الجثث. الصمت سيد الموقف، وصوت كنس الزجاج ولملمة الركام يطغى على المشهد. الدمار يتربص بأغلب المباني والمحال والسيارات، وورش الإنقاذ والإجلاء متواصلة. أما وجوه “البيارتة” فمخطوفة اللون وأقل ما يقال فيها أنها مفجوعة تنوح “ست الدنيا”، فيما أكد مسؤولون أنه حتى الساعة لا يمكن تحديد حصيلة الضحايا. بانفجار واحد، تعرّضت حكومة الدمى لزلزال أفقدها رصيدها بالكامل لدى الشارع، وحوّلها إلى موقع المتهم الأول الذي تحيط به الشبهات. فما أن تسأل شخصاً في العاصمة عن أحواله إلا ويبدأ كلامه بشتم المسؤولين من رأس الهرم إلى أسفله، وما تطمئن على أحد إلا ويشكو من أن نصف بيروت باتت غير صالحة للسكن وأنه “نازح موقت” لدى أحد المعارف.

آلام “بالجملة والمفرّق

يبدو “حُطام بيروت” كما لو أنه نتيجة قصف واستراتيجية عسكرية متعمدة لإفراغ العاصمة من سكانها. الكلمات تعجز عن وصف فداحة ما حدث، نزح مئات “البيارتة” خارج بيروت بعد أن دمرت منازلهم، وتخوّفوا من التسمم. وفي الأزقة حزن لا يوصف ومسنّون يقارنون وضع بيروت اليوم بـ”بيروت الحرب الأهلية”، يجلسون على الكراسي فوق الركام محبطين وسط ترقّب لمآل الوضع.

“أموالي محجوزة في المصرف، والمبلغ المحدد لي لسحبه بالكاد يكفي مصرف المأكل والمشرب، فمن أين لنا أن نصلح المنزل؟”، ترددت هذه الجملة على مسمعنا أكثر من مرة كما أبلغ كثيرون عن مفقودين من عائلاتهم وأصدقائهم وزملائهم، بينهم لبنانيون وعدد كبير من المقيمين العرب والأجانب… نهاية مـأسوية بكل المقاييس اختارها الحكام لعاصمة لبنان التي تلطخت ببراثن إهمالهم وفسادهم.

وتقول لارا عيتاني لـ”نداء الوطن”: لن تعود بيروت كما كانت في المدى القريب بسبب ضخامة الدمار وكل الدماء التي نزفت، فضلاً عن تدهور الوضع المالي والإقتصادي للبلاد”، معتبرة أن لبنان قد تحوّل إلى “غرفة تعذيب” وإلى “مكان للموت البطيء وعدم الإنصاف المُطلق”. وأكملت: “أطفالنا بحاجة للدعم النفسي الجدي، هذه السنة كانت متعبة جداً عليهم، فبين تدهور الحالة المادية وتوقفهم عن الذهاب الى المدرسة ووباء كورونا والآن الإنفجار، يخوضون معارك يومية أكبر منهم، بيوتنا بلا نوافذ ولا أبواب وبلا أمان، ومشاعر الألم غالبة”.

أما سامي ادريس فأخبر “نداء الوطن” أنه حاول الخروج من منزله عند اول انفجار لكنه لم يستطع لأن معدن الباب قد تمدد، وأنه ظن أن بيروت تتعرض لقصف اسرائيلي، وكانت من أسوأ لحظات حياته. وتابع: “أجول الشوارع مع أصدقائي منذ البارحة ليلاً، ونلملم وجعنا على ضوء تليفوناتنا في ظل انقطاع الكهرباء. دولة لا تخجل من نفسها، كادت ثورة تشرين أن تسحب البساط من تحت كل القوى السياسية والتيارات الدينية، لولا ظهور جائحة كورونا التي منحت العملية السياسية قبلة الحياة والنجاة من مصير النهاية المحتوم. لكن اليوم لا كورونا ولا غيرها سيوقف غضب الناس، ولا أظن أن غليل الشعب سيُشفى عبر تشكيل لجان تحقيق!”.

وفي السياق، وقفت سامية حداد، وهي امرأة مسنة، في شارع الجميزة تبكي وتتأمل الفاجعة، وقالت لـ”نداء الوطن”: “في خبطة حظ عابرة، تم توزير مجموعة مستشارين وهذه هي النتيجة. نتيجة التسويات والترقيع. من سيعيد لنا شارعنا النابض بالحياة؟ ومن سيعوضنا عن كل الخسائر؟ ومن سيُطعم اللبنانيين حين ستنقطع المواد الغذائية مع إقفال المرفأ؟”. وأكملت: “هناك العديد من المقالات الصحافية والحلقات التلفزيونية التي أشارت الى فساد المرفأ مسبقاً، ماذا سيحصل الآن بعد كل الدمار، ستدخل شحنات بلا “سكانر” وبلا رقيب أو حسيب؟ لدينا العديد من الأسئلة والمخاوف والتشكيك في قدرة المسؤولين على ايجاد الحلول”. وفيما كانت آليات وفرق ومعدات بلدية بيروت تجول منطقة الكرنتينا، يتعاون علي ديراني في الشارع المقابل لمنزله المدمر كلياً مع أبناء الحي الواحد. ويشير إلى بعض الصور في هاتفه شارحاً لـ”نداء الوطن” أنه كان جالساً بجانب زوجته أمام النافذة، وإذ مع الإنفجار الأول هربا نحو الدرج مسرعين بعدها بدقائق “صار منزلنا بخبر كان. كما ترون، منزلنا موجود في أول البنايات المواجهة للمرفأ في مار مخايل، كان من الممكن أن نتحول إلى أشلاء لولا تخوفنا من قصف طيران”. أما هالة تميم، من سكان البسطا التحتا، فتسكن في الأحياء الفقيرة خلف الجامع، تحديداً في الزقاق المليء بالأبنية القديمة المهددة بالإنهيار، فكانت تبكي على مدخل منزلها وتقول بصوت عال نسبياً: “سيقع سقف منزلنا على رأسنا بين اللحظة والأخرى، تكسرت النوافذ والتشققات ملأت الحيطان”. وتابعت لـ”نداء الوطن” قائلة: “خسر زوجي وابني عملهما في الشهور الماضية والبارحة احترق مصدر قوت اللبنانيين في المرفأ، واليوم أخسر بيتي. لا ضمان ولا كهرباء ولا أمن ولا أمان، نزداد فقراً وقهراً وموتاً ودماراً يوماً بعد يوم”.

وتقول تيمة حطيط لـ”نداء الوطن” أن والدها كان يبحث عن أخيه حتى آخر ساعات الليل بين الجثث بعدما جال كافة المستشفيات بحثاً عنه. أما زوجة المفقود فحامل وقد دخلت إلى العناية الفائقة لهول الصدمة. وتكمل: “عشنا حرباً كاملة في يوم واحد، ولا أستطيع وصف مشاعري اليوم، وكمية الغضب التي أشعر بها تجاه كل هذه المنظومة الفاسدة التي تذلّنا بين الحدث والآخر”. إنطلقت مبادرات فردية لشبان وشابات لمساعدة العائلات المتضررة، منها ما هو للتنظيف ومنها لتوزيع الغذاء والأدوية الطبية، كما وأصرّ المتطوعون على عدم ذكر أسمائهم، مؤكدين لـ”نداء الوطن” انهم مجموعة أصدقاء من أبناء العاصمة غير مدعومين من أحد، واختاروا التحرك بشكل فردي وأنه قد انضم إليهم عدة أشخاص خلال جولتهم اليوم (أمس).

من مدينة زحلة، قدم زياد سروجي منذ الصباح الباكر إلى بيروت لتفقد هول الكارثة ومدّ يد المساعدة. وقال سروجي لـ”نداء الوطن” إن الأوضاع كارثية في محيط المرفأ، بخاصة في مناطق مار مخايل النهر، الجميزة، البسطة، أسواق بيروت والكرنتينا، وتخفّ الأضرار في منطقة النويري وتقتصر على تكسر الزجاج. ويكمل: “من سيبني بيروت اليوم غير سواعد أهلها، هل يمكننا الاعتماد على من دمرها في الأساس؟ جئت من زحلة لأنني أعلم أنه “ما إلنا إلا بعض”، قطعوا علاقات لبنان مع العرب ومع الغرب ولم يقدموا أرقاماً موحدة لصندوق النقد الدولي، ويطالبوننا بالجهاد الزراعي والصناعي في ظل الفقر والبطالة واليوم دمروا أهم مرفق حيوي للبلاد، وسيناريوات فشلهم لا تتوقف”.

وعلى بعد أمتار من شارع الجميزة، تغني هالة رمضان أغاني وطنية حزينة ويرافقها محمد اسطنبولي على العود. وتقول لـ”نداء الوطن” بغصة: “نحن من فرقة “بيكار بيروت”. أشعر أنني فقدت إبني، كما أشعر أن أبي قد مات مجدداً، روحي مدمرة، أحمل “الرق” وأقف أمام أبناء مدينتي وأغني لمدينة الحياة “قومي من تحت الردم”، علّ الموسيقى تحيي فينا أملاً ما في الغد الذي قتل مع انفجار البارحة. الدمار كبير، رائحة الدماء فاحت من أمام المستشفيات، لا حلول في الأفق، ولا أملك سوى حنجرتي ونعمة الغناء لأشاركها مع المتضررين.

ويقول زميلها الموسيقي محمد اسطنبولي: “اليوم كلنا جثث تتنفس من “قلة الموت” في بيروت، وعندما انفجر المرفأ وشاهدت حجم الدمار، غضبت جداً واليوم أحاول تفريغ غضبي على مدينتي بالموسيقى. هناك من يقترب منا ويبكي بحرقة وهناك من فقد القدرة على التعبير، والبعض طلب منا أغاني ثورية تعيد نبض الحياة لقلوبهم”. ويتابع: “شو بدهم منا بعد”؟ “لا ينقصنا الا الجراد ويكتمل موتنا. نحن شعب يحب الحياة ولا يقابلوننا سوى بالكراهية والمحسوبيات والمحاصصة والموت. بيروتنا اليوم تنزف ألماً، وليس لديها أحد غيرنا لنعيد إعمارها”.

في الختام، تثبت الأيام أن لبنان عصي عن الإصلاح والتغيير، فحكامنا أسرى لاعتبارات كثيرة، خاضعون لمعادلات المحاصصة، فاقدو القدرة على المناورة. والأهم أنه لن يأتي أحد إلى نجدتنا ما لم نتحرك فماذا ننتظر؟